نظرًا لـ «الظروف الأمنية والصحية التي تمر بها البلاد، وبهدف مواجهة الإرهاب وصون مقدرات الدولة»، وافق مجلس النواب في منتصف يوليو الماضي بما يشبه الإجماع على قرار رئيس الجمهورية بمد حالة الطوارئ في جميع أنحاء البلاد.
ولأن مصر أصبحت في نحو أربعة أشهر «واحة للأمن والاستقرار في المنطقة»، أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي في 25 أكتوبر الماضي عدم تمديد حالة الطوارئ المعمول بها في البلاد منذ سنوات.
السيسي كتب في تدوينة على حسابه بفيسبوك: «يسعدني أن نتشارك معًا تلك اللحظة التي طالما سعينا لها بالكفاح والعمل الجاد، فقد باتت مصر بفضل شعبها العظيم ورجالها الأوفياء، واحة للأمن والاستقرار في المنطقة».
وبنفس الحماس الذي دعم فيه نواب المجلس الموقر في جلسة يوليو الماضي إعلان وتمديد حالة الطوارئ للمرة 19 على التوالي منذ 9 أبريل 2017، أيد هؤلاء الأعضاء قرار الرئيس بإلغائها، لأن «أسباب استمرار الطوارئ انتهت، والقوانين الحالية كافية لمواجهة أي إرهاب محتمل».
لجنة الدفاع والأمن القومي بمجلس النواب اعتبرت في بيان لها أن قرار الرئيس «التاريخي والحكيم، بإلغاء حالة الطوارئ يعبر عن الاستقرار والأمن الذي تشهده البلاد». وقالت اللجنة إن القرار يؤكد أن مصر «آمنة ومستقرة وماضية في تحقيق التنمية في ظل الجمهورية الجديدة، وفي ظل ما تحقق من جهود ومشروعات تنموية وإنجازات على مدار سبع سنوات في ظل حكم الرئيس السيسي»، مضيفة أن قرار الإلغاء دليل على نجاح مؤسسات الدولة، وتحديدًا القوات المسلحة المصرية والشرطة، في القضاء على الإرهاب ودحره.
عضو اللجنة، النائب يحيى كدواني، زاد على ما جاء في البيان، وقال في تصريحات صحفية إن «الأسباب التي أدت إلى إعلان حالة الطوارئ انتهت تمامًا، وتم القضاء على الإرهاب وتجفيف منابعه إلى حد كبير»، مؤكدًا أن القوانين والتشريعات الحالية كافية لمواجهة أى مخاطر من شأنها المساس بأمن واستقرار مصر.
بعد أقل من أسبوع من تدوير اسطوانة عودة الأمن والأمان والاستقرار والازدهار مما سمح بإلغاء الطوارئ، تم تغيير الاسطوانة ليعود الحديث مجددًا عن حاجة البلاد إلى سد الفراغ الناجم عن إلغاء الطوارئ لأن «الإرهاب لم ينته بعد وأن الدولة في حاجة إلى قوانين لحفظ أمنها»، وعُرض على البرلمان على ثلاثة مشروعات قوانين من شأنها تحويل حالة الطوارئ الاستثنائية إلى حالة دائمة.
أقر ممثلو الشعب في مجلسهم تعديلات على قوانين «حماية المنشآت العامة والحيوية»، والعقوبات في ما يخص «إفشاء أسرار الدفاع»، و«مكافحة الإرهاب». التعديل الأول ثبّت دور القوات المسلحة إلى جانب قوات الشرطة في حماية المنشآت العامة، وأحال جرائم التعدي على تلك المنشآت إلى القضاء العسكري، والثاني غلظ العقوبات في جرائم «إفشاء أسرار الدفاع عن الدولة»، أما الثالث فمنح رئيس الجمهورية صلاحيات لفرض تدابير لمواجهة الإرهاب تشمل حظر التجول في بعض المناطق.
القوانين الثلاثة التي مررها البرلمان في تلك الجلسة، فرّغت قرار إنهاء حالة الطوارئ التي تحكم مصر منذ عقود من مضمونه، والأسوأ من ذلك أن تلك التعديلات حولت ما هو استثنائي إلى دائم، بحسب ما لفت إليه بعض النواب خلال الجلسة التي استمرت خمس ساعات، ومنهم النائبة مها عبد الناصر، ممثلة حزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، والتي أعلنت تحفظ حزبها على القوانين التي تزامنت مع قرار إلغاء الطوارئ وصدور الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، معلنة رفضها للتوسع في إحالة المدنيين إلى القضاء العسكري.
ورغم أن لجنة الدفاع والأمن القومي بالمجلس كانت قد أكدت في بيانها السابق الإشارة إليه والصادر عقب قرار إلغاء الطوارئ، أن مصر نجحت في القضاء على الإرهاب ودحره، إلا أن وكيلها اللواء إبراهيم المصري، برر تمرير القوانين الثلاثة بأن وقف حالة الطوارئ جعلهم يبحثون «في الثغرات القانونية لحفظ الأمن».
وشدد المصري في تصريحات أعقبت تمرير القوانين على أن الإرهاب لم ينته، وقال «بكل وضوح فإن الإرهاب لن ينتهي، ولا بد من قوانين رادعة تتواكب مع الظروف الحالية».
نظريًا، تم إلغاء العمل بحالة الطوارئ، لكن عمليًا ووفقًا للتعديلات التي تم إقرارها تم استبدال المحاكمات العسكرية بمحاكم أمن الدولة العليا طوارئ في العديد من الجرائم، وهو ما يعد إجهاضًا للمطالب التي دعت عبر عقود إلى حق المواطن في المحاكمة أمام قاضيه الطبيعي، كما تم الاستعاضة عن الصلاحيات الاستثنائية الممنوحة للرئيس بموجب قانون الطوارئ من إعلان حظر تجول كلي أو جزئي وإخلاء بعض المناطق أو عزلها.. إلخ، بتدابير مماثلة بدعوى الحفاظ على الأمن والنظام متى قام خطر من أخطار الجرائم الإرهابية أو ترتب عليها كوارث بيئية.
أما التعديل الذي أُجري على قانون العقوبات، والذي غلظ العقوبات على جرائم «إفشاء أسرار الدفاع عن الدولة»، فمن شأنه فرض قيود جديدة على البحث والصحافة، فنص المادة المعدلة لم يتوقف عند المعلومات والأسرار الخاصة بالقوات المسلحة، بل تم التوسع في أركان الجريمة ليصبح أي باحث أو صحفي يتعامل مع منصة إعلامية أو مركز بحثي خارج مصر متهمًا بـ«التخابر» إلى أن يثبت العكس، ووفقًا للتعديلات الجديدة توقع عليه عقوبات تصل إلى السجن فضلًا عن الغرامة.
المادة (85) المعدلة وفق صياغتها لم تقتصر على الأسرار العسكرية أو التي تخص أجهزة الأمن القومي، بل شملت أخبارًا وتقارير ومحررات ووثائق وخرائط وصور وبيانات ومعلومات سياسية ودبلوماسية واقتصادية وصناعية يمكن أن يتم تفسيرها وفقًا لتقدير جهات التحقيق باعتبارها تضر مصلحة الدفاع عن البلاد، وهو ما «يقيد مهام الباحثين والصحفيين»، على حد قول النائب محمد عبد العليم داود في الجلسة، ليرد عليه مساعد وزير الدفاع للشؤون الدستورية والتشريعية، اللواء ممدوح شاهين: «ليس كل شيء يعتبر سرًا من أسرار الدفاع»، مضيفًا: «لا نمنع ولكن ارجع للقوات المسلحة للحصول على المعلومات الصحيحة».
ما حدث في جلسة الأحد، 31 أكتوبر، والجلسة المكملة لها في اليوم التالي 1 نوفمبر، هو عملية انتقال مقنن من حالة الاستثناء التي من المفترض أن تكون لها نهاية إلى القاعدة الدائمة المستمرة. ورغم أن السادة النواب أقروا في تصريحاتهم وبياناتهم التي تلت قرار إلغاء تمديد الطوارئ بأن مصر التي صارت واحة للأمن والاستقرار، لم تعد بحاجة إلى طوارئ أو إلى قوانين استثنائية بعد، قدموا خلال تلك الجلسة المسوغات التي تثبت أن البلاد لا يمكن لها أن تعيش بلا طوارئ وتدابير استثنائية.
استبشرت، كغيري، بقرار إلغاء مد حالة الطوارئ، ومن قبله إطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، وتمنيت أن تعقب هاتين الخطوتين قرارات أخرى، من شأنها وضع حد لسنوات التقييد والحصار والإغلاق التي بررت السلطة إجراءاتها الاستثنائية بأن البلاد في حالة حرب مع الإرهاب، وأن الأولوية هي حسم تلك المعركة.
كان الرأي العام في انتظار أن تصدر قرارات بإخلاء سبيل المحبوسين على ذمة قضايا رأي ممن تنظر نيابة ومحكمة أمن الدولة العليا طوارئ في قضاياهم، وإجراء تعديلات على مواد قانون الإجراءات الجنائية الخاصة بالحبس الاحتياطي، وأن يتم تخفيف قبضة الدولة على الإعلام، خاصة أن الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان التي أُعلن عنها قبل أسابيع أقرت بوجود قيود على حرية الرأي والتعبير، وأشارت إلى خروقات في ملف الحريات وحقوق الإنسان، وأكدت أن «الحقوق والحريات اللصيقة بالإنسان لا تقبل تعطيلًا ولا انتقاصًا، ولا يجوز لأي قانون ينظم ممارسة الحقوق والحريات أن يقيدها بما يمس أصلها وجوهرها».
الاستراتيجية التي تم تسويقها باعتبارها انطلاقة جديدة نحو تعزيز ثقافة الحقوق والحريات، أشارت إلى أن البلاد في حاجة إلى «استكمال البناء التشريعي لتعزيز الاتساق بين القوانين الوطنية والمبادئ والضمانات الواردة في الدستور والاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان»، داعية إلى اقتراح قوانين تدعم وتعزز حقوق الإنسان ومراجعة الجرائم المعاقب عليها وجوبيًا بعقوبات سالبة للحريات.
القوانين المشار إليها، والتي جرى تمريرها في مجلس النواب، نسفت عمليًا ما جاء في الاستراتيجية الوطنية، ووأدت قرار إلغاء العمل بحالة الطوارئ، وهو ما أحبط المتفائلين الحالمين ببدء عملية إصلاح سياسي تشمل تخفيف القيود على المجال العام وتوسيع هامش الحرية ووضع بيئة تشريعية تدفع في اتجاه تأسيس نظام ديمقراطي، حتى ولو بشكل تدريجي.
يبدو أن البعض، ومنهم كاتب هذه السطور، فهم إشارات السلطة بشكل خاطئ، ويبدو أيضًا أنه كُتب على بلادنا أن تظل محكومة بالطوارئ، سواء بالقوانين الاستثنائية أو الدائمة، ويبدو أيضًا أن هناك من يرغب ويخطط دائمًا لوضع الشعب في الزاوية، ويصر على إغلاق أي منافذ للإصلاح السياسي، حتى لا يرتفع سقف مطالب الشعب إلى حد الدعوة للمشاركة الحزبية الفعالة والتنوع الإعلامي والتعددية السياسية وتداول السلطة عبر صناديق الاقتراع في انتخابات تنافسية نزيهة.
أخيرًا، يبدو أننا سنتمنى اليوم الذي تعود فيه «الطوارئ» كحالة استثنائية، بديلًا عن ترسانة القوانين الدائمة المقيدة والمحاصرة للحقوق والحريات.