الكلمة في ديننا الحنيف أمانة كبيرة ومسئولية عظيمة، فالمرء يدخل الإسلام بكلمة، ويخرج منه بكلمة، وتكتب له الدرجات العلا في الجنة بكلمة، وينكب على وجهه في دركات النار بكلمة . وكذلك يتزوج بكلمة ويُطلِّق بكلمة.
ومن هنا جاءت خطورة الكلمة حيث قال تعالى: ” أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ ” ( إبراهيم 24 – 27 ) . وفي الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان اللَّه تعالى ما يُلقي لها بالاً يرفعه اللَّه بها درجات ، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط اللَّه تعالى لا يُلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم ” ( رَوَاهُ البُخَارِيُّ ) . وعن أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان، تقول: اتق اللَّه فينا فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا ” ( رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ) معنى ( تكفر اللسان ) : أي تذل وتخضع له.
وكلمة الإعلام من الكلمات السامية الراقية ذات الدلالة العميقة بعمق كل معاني الصدق والموضوعية والتجرد، والمعاني الواسعة باتساع كل معاني الشفافية والوضوح والأمانة، ولم لا، وقد كانت مهمة الأنبياء إعلام الناس عن الله تعالى، شرعه، جنته وناره، ثوابه وعقابه… الخ. وهذه المهمة تتلخص في كلمات ثلاث: (الهداية والبشارة والنذارة) والكلمات الثلاث تتلخص في كلمة واحدة: ( الإعلام ). ومن الملاحظ أن كلمة الإعلام اتفقت في وزنها اللغوي مع كلمات (الإسلام – الإيمان – الإحسان) وهذا الاتفاق ليس من باب المصادفة بل يرسخ هذا المفهوم ويؤكده .
ميثاق الشرف الإعلامي
عندما صدر ميثاق الشرف الإعلامي العربي بالدار البيضاء في 15 سبتمبر عام 1965 أوجب على الإعلام العربي: ” أن يعمل على تأكيد القيم الدينية والأخلاقية الثابتة، والمُثل العليا المتراكمة في التراث البشري، وأن ينشد الحقيقة المُجردة في خدمة الحق والخير، ويسعى إلى شد الأواصر، وتعميق التفاهم والتفاعل والتبادل، مادياً ومعنوياً، في المجتمع العربي والدولي …. الخ “. ولأهمية الدور الإعلامي أصبح من المتعارف عليه عالمياً أن الإعلام هو السلطة الرابعة في كل دولة بعد السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية.
المفهوم السيئ للدور الإعلامي
استهدف ميثاق الشرف الإعلامي تقديم الصورة المُثلى والوصول بالمهنة إلى المكانة اللائقة بها وهذا ما ينبغي أن يكون. ولكن للأسف نجد أن الرسالة الإعلامية في وقتنا الحالي فرغت من مضمونها – إلا ما رحم ربي – وأصبحت بُوقاً لصاحب السلطة أو لصاحب المال أو لصاحب الهيمنة والسيطرة والنفوذ، تمدح وتقدح وفق السياسة العامة والتوجهات الحاكمة دون مُراعاة لآداب وأخلاقيات المهنة ودون التزام بميثاق شرفها. ونتج عن ذلك بعض المصطلحات الدخيلة على المهنة مثل (التضليل الإعلامي – التعتيم الإعلامي – التراشق الإعلامي – التصفية الإعلامية – الصحافة الصفراء) إلى غير ذلك من المصطلحات التي شوهت صورة الإعلام لدى المواطنين وأفقدته مصداقيته. فمن المشاكل الخطيرة التي يعانى منها الإعلام خلط الأدوار والوظائف فى ذهن الإعلامي، حيث يعيش الإعلامي دور المذيع والبطل والناقد والزعيم والمثقف أو المسئول والمحرض والقاضي وصانع القرار، وينسى أنه مجرد أداة (نقل، وتفسير، وتوضيح، ومناقشة) وليس خطيباً أو قاضياً أو زعيماً .
المفهوم السيئ لحرية الإعلام
حرية الإعلام تعني عدم فرض القيود على المهنة أو على من يمارسونها وعدم حجب المعلومات عنهم أو تزويدهم بمعلومات مشوهة أو مبتورة. وفي المقابل على الإعلامي أن يكون على مسافة واحدة من جميع الأطراف والأطياف دون تحيز أو مُحاباة مُراعياً آداب وأخلاقيات المهنة. ولكن هذا المفهوم للحرية كثيراً ما يُساء فهمه أو استعماله .
فتحت مُسمى (حرية الإعلام) نجد أن هذه الحرية انطلقت لتتبع العورات وبث الشائعات والتعرض لأدق التفاصيل الشخصية في حياة رموز المجتمع مما يُعد تشهيراً وتضييقاً وتجريحاً .
وتحت مُسمى (حرية الإعلام) تجد الألفاظ النابية والمشاهد الخليعة التي لا تتفق مع شرع ولا عُرف ولا قيم.
وتحت مُسمى (حرية الإعلام) تجد التقليد الأعمى للمجتمعات الغربية في عاداتها وتقاليدها بما لا يتفق مع الشرع ومع قيم وعادات وتقاليد المجتمع الإسلامي .
وتحت مُسمى (حرية الإعلام) تجد التطاول على رموز الأمة وثوابتها دون خجل أو خوف من المساءلة.
وتحت مُسمى (حرية الإعلام) تجد التصنت على المعارضين وتتبع أخبارهم والتشكيك فيما يمارسونه من أنشطة أو ما يدعون إليه من قيم ومبادئ .
ولكي ندلل على صدق ذلك يكفيك أن تقول ( قرأت – سمعت – شاهدت) لكي يُقال لك إنه كلام إعلامي لا تنساق وراءه.
هدف الإعلام من المنظور الإسلامي
بيَّنا أن الإسلام حذر من خطورة الكلمة فهي سلاح ذو حدين, وبيَّنا كذلك بعض السلبيات التي يقع فيها معظم من يعملون في المجال الإعلامي, فالواجب على من يعمل في هذا الحقل أن يعي دوره جيداً وأن يعلم أن همساته ونبساته وتصرفاته يتم تكبيرها وتحليلها بمقدار (واحد) إلى المساحة التي يغطيها والأعداد التي يصلها ما يقول أو ينشر بأي وسيلة كانت. ومن هنا تبرز أهمية الإعلام من المنظور الإسلامي ودوره الفعال والأهداف السامية المنوطة به والتي تتلخص في:
1- هدف عقائدي: وهو ترسيخ مفهوم العقيدة الصحيحة وإزالة كل ما يشوب العقيدة من شكوك أو شبهات لدى المجتمع المسلم وتصحيح الصورة الذهنية عن الإسلام لدى المجتمعات الغربية .
2- هدف دعوي: يتمثل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة التي تُجمِّع ولا تُفرِّق, وتُؤلف ولا تُنفر, وتُشجِّع ولا تُثبِّط, وذلك في كل ربوع المعمورة .
3- هدف وطني: تأصيل حب الوطن بمفهومه الإسلامي الصحيح والعمل على النهوض بالمجتمع في كافة المجالات والحفاظ على وحدته وأمنه بعيداً عن التشرذم الممقوت والتناحر المنبوذ, والعمل على تقديم المقترحات والحلول المناسبة للمشكلات التي تواجه الوطن في شتى المجالات, وكذلك القيام بدور التعبئة النفسية والمعنوية للأفراد وقت الحروب والأزمات دون تهويل أو تهوين.
4- هدف ثقافي ومعرفي: تزويد المجتمع بالمعلومات الصحيحة وفق الضوابط الإعلامية المتعارف عليها والعمل على زيادة الجانب الثقافي وتنوعه لضمان بناء الشخصية المتكاملة والمتوازنة واحترام عقلية الفرد والذوق العام بالبعد عن الثقافة الهابطة .
5- هدف تربوي: ببث وترسيخ المفاهيم والمبادئ التربوية التي تعتبر امتداداً وتكميلاً للمنهج التربوي الذي تعتمده الدولة في مؤسساتها التربوية بما يتوافق مع شرائح المجتمع ومستوياته الفكرية وبما يتفق مع روح العصر ولا يتعارض مع الكتاب والسنة .
6- هدف أخلاقي: يتمثل في نشر الفضيلة وتبنيها وتشجيعها ونبذ الرذيلة ومحاربتها بكل السبل المشروعة .
7- هدف سياسي: يتمثل في تبصير الحاكم وتقديم النصح الذي يمكِّنه من أداء الدور المنوط به وإبراز الإيجابيات والسلبيات دون تضخيم مُخل ولا تجاهل مُضل، وتوعية المحكوم وتبصيره بحقوقه وواجباته, وتقديم التوعية السياسية التي ترسخ الصورة الذهنية الصحيحة للسياسة الخارجية للدولة وعلاقاتها بالدول الأخرى دون إفراط أو تفريط وبما لا يسبب تهديداً للأمن القومي .
8- هدف ترفيهي: بتقديم الفن الهادف البنَّاء الذي يُدخل السرور على القلب ويرفع عنه ضغوط الحياة وينشطه للانطلاق في العبادة والسعي, مع الابتعاد عن الإسفاف والابتذال والسخرية ودون تقديم ما يتعارض مع الشرع أو العادات والتقاليد الصحيحة للمجتمع .
ويجب أن نأخذ في الاعتبار أن هذه الأهداف تتكامل فيما بينها لتحقيق الرسالة الإعلامية المنشودة . كما نأخذ في الاعتبار شمولية الرسالة وعالميتها؛ فالعالم في ظل التكنولوجيا والانفتاح والسماوات المفتوحة أصبح قرية صغيرة لا تسمح بالتجمل ولا تقبل بالخديعة ولا تنطلي عليها الأكاذيب والمهاترات . والعمل الإعلامي النزيه في مثل هذه الظروف والمتطلبات يُعتبر عملاً شاقاً يتطلب شخصيات من نوع خاص وإعداد خاص لتحقيق هذه الرسالة التي هي في حقيقتها رسالة الإسلام قبل أن تكون رسالة الإعلام. فعلى كل من يعتلي منبراً إعلامياً أن يستشعر حجم المسئولية وأمانة الكلمة وعظم التبعة، فالمسئولية الإعلامية إما أن ترقى بصاحبها وتُعلِي من قدره فيُكتب له القبول في السماوات والأرض وإما أن تهبط به وتحط من قدره فما تجده إلا منتفشاً انتفاشاً لا وزن له ولا قيمة في الدارين . قال تعالى عن قوم في سورة المائدة : ” فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ ” وقال عن آخرين : “…. وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ ” .