محمود الإبياري يكتب: الحقائق الواضحة .. ويل للتاريخ من الذين يكتبون ويزيفون

الكتابة عن تاريخ مصر وتاريخ جماعة الإخوان المسلمين ودورها في فترة الستينيات من القرن الماضي تعرّض مثل كل فتراتها  – وبعد أن أصبحت عصية على الاحتواء- لتشويه متعمد, ممتدة خيوطه, ثابتة على ركائز واضحة تسعى جميعها إلى اعتبار أنها جماعة خارجة عن الدين والقانون, وليست من نبت الأرض, تتعدد عمالتها بين الشرق والغرب ولا مانع من أن تدخل إسرائيل على الخط .. أو أن تكون عمالتها للنظام!

وفي هذه الفترة على وجه أخص فقد نزلت على شعب مصر عدة كوارث، كان ولابد من أن يتم إبراء النظام الحاكم وتشكيلاته منها وتحميلها لمن يتمنى الجميع والنظام نفسه الخلاص منه وهو جماعة الإخوان المسلمين والذين كانت صفوفهم الأولى بمن فيهم المرشد خلف القضبان منذ عام 1954م.

وأهم هذه الأحداث:

1- انفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة بانقلاب عسكري قاده ضباط بعثيون، فخرج النظام المصري بتحميل جماعة الإخوان المسلمين المسؤولية وأنهم هم الذين قاموا بحركة الانفصال وأقنع شعبه بهذا, على الرغم أن التاريخ الحقيقي يقول إن جماعة الإخوان المسلمين عند قيام الوحدة عام 1958م في سوريا أعلنت حل نفسها وإيقاف نشاطها حتى تتيح لهذه التجربة النجاح.

2- في سبيل استرداد هيبته والدفاع عن صورةٍ أراد بها النظام أن يُكرّس شخصه وفكره (الناصرية) في المنطقة كلها قام بنقض تحالفه مع الإمام اليمني حميد الدين الذي وقف إلى جانبه في قيام الجمهورية العربية المتحدة وأعلن حربه عليه لتكون كما كان يعلن أنها بداية لتحرير الخليج والخلاص من حكم الملك فيصل في السعودية وباقي دول الخليج (الرجعية).

وبعد أن استعصى عليه الأمر وتعاظمت الخسائر في البشر والاقتصاد والاجتماع بدأ إعلامه يتهم الإخوان المسلمين بأنهم خلف ما يواجهه جيشه من هزائم بتحالفهم مع السعودية.

ومع استمرار هذه الحرب التي كان مقدرا لها حسب رؤية العسكريين المصريين أنها لن تستغرق أكثر من ثلاثة شهور، تم إطلاق يد الجيش للسيطرة على كل مقدرات البلاد، وخصوصا عندما أصبح العقيد شمس بدران مديرا لمكتب المشير عبد الحكيم عامر الذي انشغل بمسؤوليات متعددة منها نائب رئيس الجمهورية ورئيس لجنة تصفية الإقطاع ومسؤوليته في الاتحاد الاشتراكي ورعاية المرور في محافظة القاهرة وغيرها من المسؤوليات التي أوصلته إلى حد أن قيادته للجيش كانت رمزية وأصبحت كل مسؤوليات القوات المسلحة في يد العقيد شمس بدران, وازدادت سيطرته التي حاصرت رئيس النظام بوضع من يثق فيهم من دفعة تخرجه من الكلية الحربية ومن آخرين أمثالهم في مفاصل الجيش وكل هيئاته دون اعتبار للأقدمية المعروفة في النظام العسكري، وبتحالفه مع رئيس المخابرات صلاح نصر تمكن من إحكام هذه السيطرة. كان هاجس الانقلابات العسكرية أو الاغتيال المدخل إلى السيطرة على الرئيس نفسه والتي اكتملت بغطاء مباركة المشير عامر بعد أن أحاط نفسه بمجموعة من الضباط من مختلف الأسلحة أجمعوا على الولاء الكامل له شخصيا وانهالت عليهم عطاياه من الميزانيات الخاصة ومن قصور وشقق وثروات منقولة وغير منقولة ممن تم تسميتهم أو تصنيفهم تحت لافتة الإقطاع وتم وضعهم وغيرهم وكل ما يملكون تحت ما قالوا عنها إنها الحراسة، ويمكن أن يقال إنها كانت البداية لما يسمى الآن جمهورية الضباط.

3- الاتجاه نحو المعسكر الشرقي وطلب الدعم في إنشاء السد العالي والسلاح والتحالف مع “الملك الشيوعي” في يوغسلافيا؛ تيتو, كما كان يصفه الصحفي هيكل، والذي أفرز تحالفا مع التيارات الماركسية وإعلان الحزب الشيوعي حلّ نفسه، والانضمام للاتحاد الاشتراكي ونتج عنه الإفراج عن كل المعتقلين والمسجونين من التنظيمات الماركسية وحل قسم مكافحة الشيوعية في جهاز الأمن وتسريح مسؤوليه من الخدمة في وزارة الداخلية والانضمام إلى الاتحاد الاشتراكي، وأصبح هذا التيار (الماركسي للتأكيد) مسؤولا عن الثقافة والإعلام في التنظيم الحكومي وما نتج عنه من هجوم وتشويه للإسلام، كانت جماعة الإخوان المسلمين وأفكارها هي الجائزة الكبرى التي كانوا يرجونها للعمل المدعوم حكوميا للقضاء عليها.

4- في هذا الوضع المضطرب نشط الرفاق الماركسيون في تأكيد وجودهم وفي انتهاز الريح التي واتت شراعهم بالهجوم على الإسلام بشتى وسائل الإعلام: راديو، تلفزيون، كتابات، مسرحيات … ما أوجد ردود فعل مكتومة لدى عامة الناس خصوصا وأن النظام قام بتهميش دور الأزهر وتشديد الرقابة على الأئمة في المساجد الكبيرة بعد حادثة خطبة الشيخ الغزالي في الأزهر اعتراضا على سخرية وهجوم رئيس النظام على أصحاب العمائم في جلسة إعلانه عن قيام الاتحاد الإشتراكي ودستوره (الميثاق).

ولم يقتصر الأمر, والحرب في اليمن مستعرة، فقد خرجت بعض وسائل الإعلام العربية عن تحفظها السياسي وخصوصا في السعودية وغيرها بالدفاع عن الإسلام وانضمام أنظمة عربية أخرى إليها كانت مصنفة مصريا أنها رجعية أو عميلة مثل نظام الرئيس التونسي الأسبق بورقيبة، مما أزعج رئيس النظام الذي لم يسعفه إعلامه وخصوصا إذاعة “صوت العرب” التي كانت تحمل صوت المذيع الشهير أحمد سعيد عن نفي الاتهامات أو إنكار ما هو واقع.

5- مأزق أحاط بالنظام المصري, وفرصة انتهزها نائب الرئيس وقتها (زكريا محي الدين),  وزير الداخلية وجهاز المباحث العامة (أمن الدولة لاحقا) اللذان كانا أصحاب الحظوة لدى رئيس النظام باعتبارهما الحارسيْن الأمينيْن له شخصيا ولنظامه بعد أن استولى على هذه الحظوة عقيد جيش يرأس مكتب المشير ويتحكم في كل مرافق الدولة بهذا الغطاء، ويقوم بإصدار الأوامر والتعليمات لمن هم أقدم منه رتبا عسكرية وأكثر خبرة بأحوال الشعب وكيفية سياسته وتوجيهه وتغوله شخصيا على اختصاصاتهم.

6- ليس دفاعا عن الإسلام ولا عن سلوكيات وأخلاقيات الناس, اللذين كانا هدفا للثقافة الماركسية الفاحشة التي انهالت على الشعب المصري من كل نوافذه، وإنما دفاعا عن الاستقرار الأمني ومحاولة تجميل النظام، جاءت خطة جهاز المباحث العامة التي اضطر النظام للموافقة عليها، وهي عدم التصدي لبعض الدفاعات الفردية عن الإسلام التي يقوم بها أفراد مع وضعهم تحت الرقابة الشديدة لتظل فردية مع اتباع سياسة الخنق التدريجي والتضييق عليهم دون إظهار العداء لهم حتى تنفد طاقاتهم, وفعلوها مع الشيخ محمد الغزالي، والشيخ محمود عبد الوهاب فايد, صاحب سلسلة مقالات (باسم الله .. الله أكبر فليستقل شيخ الأزهر) في مجلة الاعتصام، ومع سخونة مقالاته تم نقله وظيفيا من القاهرة إلى مدينة قنا بصعيد مصر وحصاره إعلاميا حتى توقف عن الكتابة.

7- وحتى لا تلتصق جريمة الحرب على الإسلام بالنظام ورئيسه فقد تم تعيين الدكتور عبد القادر حاتم وهو أحد من كان يسمى بتنظيم الضباط الأحرار وزيرا للثقافة وقام بإصدار (مجلة الرسالة) التي كانت تحمل مقالات لكتاب إسلاميين وبعضها كانت مقالات جادة، وعابها أنها كانت مجلة تشرف عليها الدولة فلم يكن عليها إقبال, وقيل وقتها إن عدد قرائها أقل من عدد العاملين فيها.

وقامت مجموعة أخرى من علماء الأزهر بإصدار مجلة شهرية كان منهم الشيخ محمد أبو زهرة ولكنها أيضا لعدم وجود دعم مادي أو إعلامي لها فقد كانت مجهولة إلى حد كبير، وفي أحد أعداد هذه المجلة وفي صيف 1965م نشرت ندوة عن الحدود في الإسلام جاء فيها حكم شديد الغرابة وقتها يقول إن ضاربي بشرة المسلم بالسياط في غير حد من حدود الله المنصوص عليها كافر وهو أمر لم يعره جهاز مباحث أمن الدولة اهتماما لأنه كان على يقين أن المجلة والقائمين عليها (رغم فضلهم) لا يتبعهم أحد.

ولعلها كانت الفتوى أو الهفوة الوحيدة للمجلة طوال صدورها التي تحاوزت فيها حدود ما كان مسموحا لها به.

8- زادت شدة الأزمة على النظام المصري مع نهايات عام 1964م بتعقيدات الحرب في اليمن وفشل السياسات الداخلية في وقت ظلت القوات المسلحة في شخص العقيد شمس بدران, صاحبة الكلمة العليا على كل النشاطات الداخلية وما سببته من إرباك في رعاية الفساد والتشويه الثقافيين والمدعومين من التكتل اليساري والعلماني مما أربك جهاز المباحث العامة في مواجهة النشاط الإسلامي وسكت مرغما مع المراقبة الشديدة للنشاط الجديد على الساحة وهو نشاط (جماعة الدعوة والتبليغ) التي أنشأها الأخ الأستاذ فريد العراقي عليه رحمة الله بعد شعوره بالفراغ على ساحة الشباب والدعوة إلى الله بعد فصله الدعوة عن السياسة ونشطت الجماعة بشكل قوي وسريع حتى اعتقالات 1965م التي شملت أيضا المؤسس بأمر من مكتب المشير وتزامل مع إخوانه في السجن الحربي وناله ما نال إخوانه من أذى.

9- بقيت جماعة الإخوان المسلمين وأفرادها الهاجس الأكبر لدى الطبقة الجديدة الحاكمة والنظام وأجهزة أمنه، يزعجهم أن من بقي في السجون لم تنكسر إرادتهم رغم ما كان مصبوبا عليهم من إرهاق مستمر وعنت، ثم إن من هم خارج السجون لم تظهر عليهم علامات الانكسار أو التسليم أو تغييب أنفسهم عن ساحة ما يجري على الأرض في قول ما لا يرضي النظام وكشف ما يرونه عورات تأكيدا على أن الجماعة لم تنكسر بما قام به النظام عام 1954م وكان وما زال يقوم به.

لم تغب الجماعة عن واقع مصر وقتها، ويأتي قدر الله سبحانه وتعالى بارتباك النظام وأجهزته، وأنه سبحانه لا يصلح عمل المفسدين مع إيغالهم في السوء وفي إسالة الدماء، ويزداد أفراد الجماعة داخل السجون وخارجها إصرارا على التمسك بما يرضي الله سبحانه ويزداد المعسكر الآخر غرقا في نتائج سياساته، وفي عام 1965م يصدر كتاب الأستاذ محمد قطب عليه رحمة الله (جاهلية القرن العشرين) ولأن القوم لا يعون, أو أن الكيد بين الجهاز الأمني المدني والجهاز الأمني العسكري أتاح فرصة بقدر الله أن تمرر الكتاب اللجنة التي تجيزه ومنها ممثل للجهاز الأمني.

ثم يأتي كتاب (معالم في الطريق) بعد المراجعات الأمنية وغيرها بعد أن تم إخبار الصف الإخواني به قبل صدوره ليكون الجميع على استعداد لتملكه في طبعاته الأولى وأصبح الكتاب مطروحا في السوق حتى انتبه إليه بعض عتاة الماركسية وانهالت البلاغات الأمنية على رأس النظام لتقول إن هذا الكتاب يخاطب صفا منظما، جعلت المسؤولين الأمنيين يلهثون حول شرحه وتفسيره لتبرئة ساحتهم وتأكيدهم لرأس النظام أن نشاط أفراد الجماعة خارج السجون لم يتجاوز الخطوط الحمراء وأنها كما كانوا يتصورون مقصورة على لقاءات اجتماعية في جنازة أو عرس أو مصادفة في طريق أو وسيلة مواصلات دون أن يخلو الأمر من بعض المساعدات المالية المحدودة التي يتابعها جهاز المباحث العامة، وأن الأمر لا يحتاج إلى إجراءات استثنائية تضع البلد في حالة إرباك أشد مما هو فيه بعد عمليات دهم عشوائية لمنازل, وتحقيق لا يخلو من عنف لأكثر من ألفين من بيوت ومساكن أعضاء من جماعة الإخوان دون وجود أي أسلحة غير بعض كتب الجماعة وخصوصا كتاب (معالم في الطريق).

وكانت استراتيجية الجهاز الأمني في الحرب على النشاط الإسلامي المعتمدة تتمثل في الرقابة على الحركة وبقائها في حدود السيطرة وضربها إذا خرجت عن هذه الحدود وترك الحرب الفكرية لمؤسسات الاتحاد الاشتراكي الثقافية والتي كان يسيطر عليها الماركسيون بالاشتراك مع بعض المفكرين الإسلاميين الذين ساروا في ركب النظام.

10- في صيف 1965م تزداد ضغوط مكتب المشير بإعادة اعتقال كل أفراد الجماعة، وتأتي مقالة (نيوزويك) الشهيرة في أوائل الشهر السابع الذي تحدث فيه عن بدائل رأس النظام وتذكر اسم رشاد مهنا أحد الضباط بتنظيم الضباط الأحرار عام 1952م – وكان أقدم رتبة عسكرية من عبد الناصر، أبعدوه عن طريق تعيينه في لجنة وصاية ملكية بعد إزاحة الملك فاروق- ثم اعتقاله فترة بلا سبب بعد ذلك، ووضح وقتها أن هناك تحريضا خارجيا متناسقا مع سياسات مكتب المشير لإرهاب رأس النظام الذي لم يتوانَ عن اعتقال رشاد مهنا ومجموعته من كبار ضباط الجيش وكانوا كلهم على التقاعد خوفا من أن يكون لهم مناصرون داخله.

11- يكتمل التحريض وإرهاب رأس النظام بالكشف عن تنظيم كان يتابعه مكتب المشير يرأسه, صديقٌ للسادات؛ هو حسين توفيق الذي قام باغتيال وزير المالية المصري عام 1946م وكان الطريق لبعض القريبين من الإخوان المسلمين المنتظمين، وأحد الأهداف من وجود هذا التنظيم هو إحراج نائب رئيس الجمهورية وزير الداخلية زكريا محي الدين وأجهزة وزارته وزلزلة مكانه في الدولة وهو الذي كان منافسا للمشير عبد الحكيم عامر على منصب الرجل الثاني في النظام ومعه أنور السادات وهما الشخصيتان الباقيتان في السلطة من أعضاء مجلس حركة 1952م.

12- في الشهر السابع 1965م وبأمر رأس النظام تتم الاعتقالات الجماعية بتعليمات ورئاسة الشرطة العسكرية والجهاز المتفرع عنها (المباحث العسكرية)، ولا يتأخر جهاز المباحث العامة لإثبات ولائه للنظام عن المشاركة والمنافسة في اعتقال من لا تطالب به المباحث العسكرية، وتمتلئ زنازين السجون بكل ناشط إسلامي له تأثير حتى ولو لم يكن من جماعة الإخوان المسلمين ليأخذ ما يستحقه من تأديب حسب مقاييس شمس بدران والعميد سعد زغلول عبد الكريم قائد المباحث العسكرية وتجري المحاكمات الزائفة التي لم يضبط فيها سلاح واحد، رسخ فيها تحالف شمس بدران وصلاح نصر سيطرته على القوات المسلحة لتتم السيطرة الكاملة على رأس النظام مع الخلاص من سيد قطب وجماعة الإخوان وإفراغ الساحة الوطنية من أي مقاومة حتى ولو بالرأي.

صفحات من سجل عطاء, وتاريخ أداء لم يهن ولم يهادن، سطرها مواقف رجال لم يبدلوا ولم يغيروا،

منهم من قضى نحبه، ومنهم من هو قائم على ثغرته بفضل من الله وتسديد.

شاهد أيضاً

محمد نعيم يكتب : العد العكسي لانفجار اجتماعي.. وربما سياسي

في مصر، يبدأ أي مسار جدي نحو احتمالية إجراء انتخابات رئاسية نزيهة وتنافسية بأن يُعلن …