تواجه رقعة الشطرنج الدولية مع مطلع العام 2016م مفترق طرق رئيسي في رسم وتشكيل ملامح جزء من أهم أجزائها التاريخية الجيوسياسية وهو الشرق الأوسط , الأمر الذي يستدعي مراجعة بعض القراءات الاستشرافية على صعيد مستقبل الخارطة الجيوسياسية الشرق أوسطية بوجه خاص , وذلك انطلاقا من واحد من أهم وأبرز أحداث القرن 21 , وهو رفع العقوبات الاقتصادية والحظر النفطي عن إيران الذي بدأ تنفيذه في شهر يوليو من العام 2012م , والذي يمكن أن يعزا إليه لاحقا عبر عقود من الزمن القادم العديدُ من ملامح التغيير والتأثير على تلك الخارطة في جانبين مهمين من الناحية الجيوسياسية , وهما شكل وطبيعة التحالفات والقوى الإقليمية والدولية المستقبلية, وكذلك في جانب تغيير هياكل بناء السياسة العالمية على المستويين القائم والقادم .
وبالرجوع الى التاريخ السياسي نجد أن تغيير العديد من ملامح السياسات والعلاقات الدولية مرتبط ارتباطا وثيقا بتغيير المصالح الجيوسياسية التاريخية , كما أنه يمكن أن يوجه لبقعة جغرافية معينة عبر مساحة زمنية محددة من التاريخ السياسي أصابع الاتهام بكونها أحد أهم ديناميكيات الطاقة والقوة والنشاط الجيوسياسي, والبقعة الجغرافية الأكثر تعقيدا ونزوعا للتغيير, بل حقل الألغام السياسي والمرجل الطائفي .. أنه الشرق الأوسط .
لذا فإن رفع العقوبات الاقتصادية والحظر النفطي عن إيران وهو فاتحة أنشطة التغيير السياسي على مستوى العلاقات الدولية مع منتصف العقد الثاني من القرن 21 سيشكل ملامح تغيير ديناميكية الطاقة والقوة والنشاط الجيوسياسي على رقعة الشطرنج الشرق أوسطية خلال السنوات المتبقية من هذا العقد, الأمر الذي سيؤثر بكل تأكيد على شكل وطبيعة التحالفات والقوى الإقليمية والدولية, وكذلك في جانب تغيير هياكل بناء السياسة العالمية على المستويين القائم الراهن والقادم المستقبلي, خصوصا أن هذا التغيير لم يصب فقط الجانب السياسي من ملامح السياسة الدولية, ولكنه كذلك ارتبط بشكل مباشر بمؤثرات النشاط والتغيير الاقتصادي في مرحلة تاريخية تعد الأكثر نزوعا للصراعات السياسية والأشد تأثرا بالتغيرات الاقتصادية.
رفع العقوبات الاقتصادية والحظر النفطي عن إيران , جاء في مرحلة اضطرابات سياسية وأمنية وأزمات مالية تهز دول الشرق الأوسط , والأهم من ذلك اتجاه شبه ملاحظ منذ العام 2011م نحو تغيير شكل وملامح السياسات الجيوسياسية على مستوى تغيير التحالفات والقوى وهياكل بناء السياسة الإقليمية والدولية انطلاقا من هذه البقعة الجغرافية الأكثر سخونة وفوضوية في العالم .
الأمر الذي يجعلنا نعيد التأكيد على أن رفع العقوبات الاقتصادية والحظر النفطي عن إيران سيشكل آخر ملامح اللوحة الفنية القديمة للشرق الأوسط , ويؤسس لشرق أوسط جديد ستحكمه السياسات والتوجهات المنبثقة عن نظام التعددية القطبية الفضفاضة الذي نتوقع استمراره حتى مطلع العقد الثالث من هذا القرن, والذي سيتحول لاحقا وبشكل أوتوماتيكي نتيجة الكثير من المعطيات المتوقعة إلى تخوم نظام عالمي جديد, وهو ما يطلق عليه بنظام حكم الكثرة الذي سيرزح تحت وطأته العالم لسنوات طويلة نتوقع أن تستمر إلى نهاية القرن 21.
ودون الدخول إلى تفاصيل ملامح سرعة التغيير والتدافع الإيجابي باتجاه إيران من قبل أغلب القوى السياسية والاقتصادية الدولية والإقليمية بعد رفع العقوبات والحظر النفطي عنها , وهو أمر طبيعي, في ظل رغبة تلك القوى الدولية والإقليمية في دخول سوق المصالح الجيوسياسية الشرق أوسطية من البوابة الإيرانية, والتي نؤكد بأنها , أي , تلك العلاقات الدولية القائمة على التشكل انطلاقا من الجغرافيا السياسية الإيرانية ستدفع لاحقا وفي وقت لن يتجاوز العام 2020م نحو تغيير جذري على خارطة الشرق الأوسط , بحيث ستتغير بعض التحالفات السياسية والاقتصادية والأمنية القائمة اليوم باتجاه إعادة بنائها من جديد لتواكب المحتمل والمتوقع من إيران التي ستشهد طفرة مؤكدة في الاقتصاد والتنمية الداخلية وكذلك في التوجهات السياسية والاقتصادية المستقبلية .
وهو ما سيؤثر بشكل تدريجي من وجهة نظرنا على شكل التوجهات والسياسات والطموحات الإيرانية القادمة, الأمر الذي يعتبره العديد من القوى الإقليمية , خصوصا بعض دول الشرق الأوسط خطرا يهدد مصالحها الجيوسياسية, وكذلك خطرا على استقرار المنطقة, وشكل التوازنات والتحالفات القائمة بناءً على المعطيات السياسية والاقتصادية والأمنية الجديدة, ما سيدفعها بكل تأكيد إلى تغيير توجهاتها بالتوازي مع التغيير في هياكل البناء السياسي والاقتصادي الإيرانية القادمة.
وباختصار , يمكن القول إن رفع العقوبات الاقتصادية والحظر النفطي عن إيران سيعيد بناء التحالفات الاقتصادية والسياسية والأمنية القائمة اليوم , وكذلك سيعيد تشكيل بعض القوى الإقليمية الشرق أوسطية في المستقبل القريب .
بحيث نستطيع أن نقول إن الشرق الأوسط وخلال الفترة من العام 2016م وحتى العام 2020م ستبرز عليه آخر الملامح البانورامية للتغير الجيوسياسي التي اشرنا إليها في مقال: “العالم على تخوم نظام حكم الكثرة), وستدخل دوله مع مطلع العقد الثالث من القرن 21 بشكل رسمي بحسب الاتجاه الراهن – السيناريو الخالي من المفاجآت – والذي تتوجه إليه الخارطة الجيوسياسية للشرق الأوسط بعد رفع الحظر والعقوبات عن إيران إلى ما يطلق عليه ببداية قرن التحالفات الفضفاضة , هذا النوع من التحالفات التي يكون فيه الحلفاء والأصدقاء في وضع ومكان وزمان معين هم أعداء وخصوم في مكان وزمان ووضع آخر , حيث علاقات الخصومة المتشكلة ستغلب على علاقات التحالف في العديد من القضايا من جهة, وذلك بسبب العدد الكبير من اللاعبين ونوعياتهم وتضارب مصالحهم الجيوسياسية والجيواستراتيجية , والتي تجعل من النظام العالمي القائم نظاما فوضويا ومتناقض التركيب , سريع التقلبات والصداقات والعداوات , في ظل غياب شركاء تحالف يعول عليهم .