مصطفى عبد السلام يكتب : تلامذة “وول ستريت” في تركيا…هل ينجحون؟

من النقيض للنقيض، ومن إصرار شديد على خفض أسعار الفائدة واعتبار رفعها “أم المهلكات” إلى زيادات قياسية في الفائدة لم تشهدها البلاد منذ 20 سنة، ومن بنك مركزي وحكومة يحاربان بضراوة أسعار الفائدة المرتفعة، إلى دولة تتبنى سياسة نقدية جديدة تماما تقوم أساسا على سحب السيولة النقدية من الأسواق ومحاربة التضخم والغلاء الفاحش عبر رفع سعر الفائدة، ومن خفض لسعر الفائدة بنسبة 1% وربما أكثر إلى زيادة بنسبة 5% مرة واحدة كما جرى قبل أيام.
هكذا تعيش تركيا هذه الأيام، فقبل سنوات تبنى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سياسة خفض سعر الفائدة على الليرة التركية، بل ووصف نفسه مرات عدة بأنه عدو الفائدة المرتفعة لأنها أداة للاستغلال كما أعلن عدة مرات، وقال إنه ليس مولعاً بأسعار الفائدة.
وعارض الرفع بشدة، وكانت النتيجة إقالة ثلاثة من محافظي البنك المركزي التركي تبنوا سياسة التشدد النقدي ورفع الفائدة لمواجهة التضخم والدفاع عن الليرة من المضاربات.
كانت هناك أسباب كثيرة دفعت أردوغان لتبني سياسة سعر الفائدة المنخفضة والسير في هذا الاتجاه عدة سنوات والإصرار على موقفه رغم الضغوط الشديدة عليه خاصة من بنوك الاستثمار العالمية والمستثمرين الدوليين.
كان الرجل يرى أن أسعار الفائدة العالية تعمق عجز الموازنة العامة، وتزيد أعباء الدين العام للدولة، وتلعب دورا في تكدس الأموال داخل البنوك دون استفادة أنشطة الاقتصاد منها، وتعرقل الاستثمار المباشر وزيادة الإنتاج ومعدلات النمو المرتفعة للاقتصاد، وتدخل الأسواق في حال ركود وربما كساد بسبب ارتفاع كلفة الاستثمار والاقتراض.
كما أن الأسعار المرتفعة ترهق المستثمرين والشركات التي توفر فرص عمل وتجلب النقد الأجنبي للبلاد عبر إحداث قفزات متواصلة في الصادرات الخارجية والسياحة.
إضافة إلى أن المستفيد الأكبر من الفائدة المرتفعة هم المستثمرون الأجانب أصحاب الأموال الساخنة الذين يغرفون مليارات الدولارات من خزانة الدولة ويفرون بها إلى الخارج بسرعة دون إضافة فرصة عمل واحدة.
ومع اندلاع حرب أوكرانيا في فبراير 2022 ونشوب موجة تضخمية حادة حول العالم لم تعرفها الدول والاقتصادات الكبرى منذ 4 عقود، سارعت البنوك المركزية الكبرى لرفع سعر الفائدة في إطار محاربتها لتلك الموجة شديدة الخطورة على الاقتصاد والأسواق والمواطن والقدرة الشرائية للجميع، وحماية القدرة الشرائية للأشخاص من التآكل.
فقد رفع البنك المركزي الأميركي سعر الفائدة على الدولار 11 مرة منذ شهر مارس 2022، لتصل إلى 5.5%، وهي أعلى مستوى منذ العام 2001 وخلال 22 سنة.
وسارت خلفه بنوك مركزية عريقة منها البنوك المركزية في إنجلترا وسويسرا واليابان والصين وروسيا وغيرها، وعلى الرغم من تأخر البنك المركزي الأوروبي في رفع سعر الفائدة وتأنيه بعض الوقت، إلا أنه رفع السعر على اليورو 10 مرات ليصل إلى 4%، وهي أعلى معدلات في 22 سنة.
وفي الوقت الذي كانت فيه دول العالم تسابق الزمن لمواجهة موجة التضخم عبر سحب السيولة النقدية من الأسواق، كانت تركيا ماضية في سياسة خفض سعر الفائدة على الليرة.
وكانت النتيجة حدوث موجة تضخمية اقتربت من 100%، غذاها حدوث قفزات في أسعار الوقود من نفط وغاز في الأسواق العالمية، وزيادة أسعار السلع الغذائية، وتهاوي الليرة التركية.
ساعتها تذمر رجل الشارع التركي وغضب من قفزات الأسعار وتهاوي الليرة، وعلى الرغم من رفع الحكومة الأجور والرواتب عدة مرات وبمستويات قياسية، إلا أن التضخم واصل مستوياته المرتفعة، ومعه واصلت الأسعار قفزاتها، واستمر غضب الشارع، خاصة وأن التضخم أثر بشدة على الأحوال المعيشية للمواطن، كما أثر سلبا على العملة، الليرة، التي تراجعت بشدة مقابل الدولار.
وعقب فوزه في الانتخابات الرئاسية في شهر مايو الماضي، عين أردوغان فريقاً اقتصادياً محترفا تبنى سياسات اقتصادية ونقدية ومالية جديدة تخالف السياسات المطبقة في السنوات الأخيرة.
سياسات تشبه تلك المطبقة في أسواق “وول ستريت” الأميركية، ومن قبل البنوك المركزية العالمية وهي محاربة التضخم بزيادة سعر الفائدة، وهو ما حدث خلال الشهور القليلة الماضية حيث رفع البنك المركزي التركي سعر الفائدة إلى 30%، وهي أعلى مستوى في 20 عاما.
ويبدو أن هذا الفريق، الذي يقوده محمد شيمشك وزير الخزانة والمالية وأحد صانعي النهضة الاقتصادية في البلاد، وحفيظة غاي أركان محافظة البنك المركزي التركي، قد حصل على كل الصلاحيات من أردوغان والتي تمكنه من إعادة التضخم لمستوياته، وإعادة الهدوء لسوق الصرف المضطرب، وكذا إعادة بناء الاحتياطي النقدي الأجنبي الذي تم استنزاف جانب منه في الدفاع عن الليرة.
فهل يحقق هذا الفريق تلك الأهداف، أم يدخل الاقتصاد التركي في حالة ركود تستمر سنوات؟

شاهد أيضاً

أ.د. إسماعيل علي يكتب : هل يستحق الإخوان المسلمون (العفوَ) مِن السيسي؟!!!

بعد ثورة_25_يناير 2011، مارَسَ الإخوانُ المسلمون حقَّهم المشروعَ ـ بل واجبَهم المنتظَرَ منهم ـ فتقدموا …