يعرف العالم حالياً أنواعاً شتى من الحروب، شاملة وحربية واقتصادية وعرقية وأهلية وحروب بالوكالة وغيرها، ومنها ما هو تقليدي كما يحدث في أوكرانيا وغزة والسودان، وغيرها من الدول، ومنها حروب الجيل الرابع والحروب البيولوجية والكيميائية، ومنها ما هو غير تقليدي كالحروب الاقتصادية التي تتفرع منها حروب فرعية قد تكون أشد تأثيراً وربما فتكاً بالنسبة للأفراد والدول واقتصاداتها وأسواقها ومراكزها المالية، وفي مقدمتها حرب الغذاء الضروري لكل إنسان.
من تلك الحروب الفرعية حروب العملات التي تنشأ من وقت لآخر بين أقوى الاقتصادات في العالم، الولايات المتحدة والصين، وأحياناً تمتد لعملات دول أخرى، منها اليابان وروسيا، وهناك الحروب التجارية التي من أبرز مظاهرها الحرب الحالية الشرسة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من جهة، والصين من جهة أخرى، حول السيارات الكهربائية، أو الحرب التجارية المتصاعدة بين واشنطن وبكين حول الرسوم الجمركية، وتقنيات الذكاء الاصطناعي المتطورة، والرقائق الإلكترونية وحقوق الملكية الفكرية أو التطبيقات الإلكترونية مثل تطبيق الـ”تيك توك” الشهير.
ومن المتوقع أن تزيد حدة تلك الحرب التجارية في حال عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، حيث قاد حرباً تجارية شرسة ضد الصين خلال فترة توليه الحكم في الولايات المتحدة، أو في حال عودة التضخم وغلاء الغذاء لأسواق العالم.
وتتجلى مظاهر الحروب الاقتصادية بشكل واضح في العقوبات الشرسة التي تقودها واشنطن، ومن خلفها أوروبا، ضد الاقتصاد الروسي، في محاولة لاستهداف أبرز أنشطته، وهو قطاع الطاقة الحيوي، ومن وقت لآخر تزيد رقعة تلك العقوبات ضد النفط والغاز الروسي في محاولة لحرمان موسكو من أبرز مواردها من النقد الأجنبي، كما ظهرت تلك الحرب في تجميد الحكومات الغربية أموال روسيا من النقد الأجنبي المودعة لدى البنوك الأميركية والأوروبية التي تتجاوز 300 مليار دولار، بل والبدء في مصادرة تلك الأموال، عبر قرار مجموعة السبع الصناعية الأخير تحويل 60 مليار دولار من عوائدها لأوكرانيا.
أما أبرز الحروب المرتقبة عالمياً فهي حروب الغذاء التي تغذيها حالياً أسباب عدة، منها التغيرات المناخية، والجفاف الحاد، والمخاطر الجيوسياسية، والحواجز الجمركية، وهي عوامل تؤثر سلباً بالإنتاج العالمي من الحبوب، وتدفع إلى حدوث قفزات في أسعار الأغذية حول العالم، وبدء الدول المنتجة للغذاء في فرض قيود على صادراتها من السلع الغذائية حفاظاً على استقرار الأسواق الداخلية، وعدم استفزاز المواطن في حال حدوث نقص في المعروض، وحدوث موجات من الغلاء والتضخم.
وقد رأينا صوراً عدة من حرب الأغذية قبل عامين، عقب اندلاع حرب أوكرانيا، وما سببته من حدوث قفزات في أسعار الأغذية عالمياً، وتعقد سلاسل التوريد، وقبلها مباشرة تداعيات جائحة كورونا، وما خلفته من فرض الدول المنتجة للأغذية قيوداً على صادراتها من الحبوب، كما حدث من الهند وإندونيسيا ودول عدة بأميركا اللاتينية. لكن الحرب المقبلة قد تكون أشد فتكاً بالأسواق والمستهلك الذي عانى من ظاهرة الغلاء في السنوات الأخيرة، وما أسفرت عنه من نزيف في المدخرات، والثروات الشخصية، والإيرادات العامة.
ولأن الدول بدأت تستشعر خطر نقص الأغذية عالمياً، وتوقع زيادة أسعارها، فقد بدأت في التحوط من هذا الخطر، أحدث مثال على ذلك ما قامت به النرويج منتصف هذا الأسبوع، فقد وقعت حكومتها اتفاقاً لبدء تخزين الحبوب، قائلة إن جائحة كوفيد-19 والحرب في أوروبا وتغير المناخ أكدت ضرورة ذلك. ومن المتوقع أن توقع الدولة الأوروبية عقود تخزين أخرى في السنوات القادمة، بهدف بناء احتياطي ضخم من الأغذية حتى عام 2029. وقالت وزارة الزراعة والأغذية النرويجية، في بيان، إن “توفير مخزون طوارئ من الحبوب الغذائية هو استعداد لوضع لا يمكن تصوره”.
وإذا كان هذا هو حال النرويج التي تعد من الدول الثرية والرئيسية في إمدادات الغاز الطبيعي، ولديها سيولة مالية ضخمة، فهي تمتلك صندوقاً سيادياً هو الأكبر في العالم، بحجم أصول 1.6 تريليون دولار. فما هو حال الدول التي لا تمتلك أصلاً سيولة من النقد الأجنبي، وليس لديها خطط للتعامل مع تلك الأزمة المرتقبة، بل وقد لا تضع المواطن أصلاً في اعتبارها.