كالعادة، كلما تراجع سعر الدولار بالسوق السوداء المصرية بعض الشىء، صوّر الإعلامُ الحكومي الأمرَ على أنه علامة على انحسار المشكلة، ونجاح سياسات البنك المركزى والحكومة، رغم كون ذلك مجرد تراجع وقتي، ولا يلبث أن يعود السعر للصعود مرة أخرى، خاصة أن الأسباب الجوهرية للمشكلة ما زالت مستمرة.
والأسباب الجوهرية معروفة وتتعلق بتراجع حصيلة الموارد الرئيسية للنقد الأجنبى، وأبرزها السياحة، والاستثمار الأجنبي، وتحويلات المصريين العاملين بالخارج، والتصدير والمعونات الأجنبية وقناة السويس .
ولأن المناخ الإتناجى والاستثمارى والأمنى والسياسى مضطرب، فلا مجال لتحسن حصيلة تلك الموارد فى الأجل القريب، ولهذا ستبقى مشكلة نقص الدولار مستمرة لشهور عديدة قادمة، وفى رأى بعض الخبراء لسنوات قادمة.
وها هو محافظ البنك المركزى المصرى يقرر فى لقاء تلفزيونى الشهر الماضى، أن حل وفرة الدولار سيكون خلال العام القادم وليس في العام الحالي، وها هى بيانات رسمية تشير إلى وجود عجز بصافى أرصدة العملات الأجنبية بالبنوك منذ شهر نوفمبر الماضي، للمرة الأولى منذ عام 1991.
الشواهد
ومن شواهد الأزمة ما قام به البنك المركزى من إجراءات لتقليل الاستيراد، وتحجيم المبالغ المتاحة لتعاملات بطاقات الائتمان خارج البلاد، وحظر تعاملاتها بالدولار داخل مصر، والتأخر فى تدبير احتياجات السلع الأساسية حتى الأدوية، والصعوبات التى تجدها الشركات الأجنبية العاملة فى مصر لتحويل أرباحها.
ومع تولى محافظ جديد للبنك المركزى لم يتوقف تصاعد السعر بالسوق الموازية، بل إن اجتماع قيادات بالبنك المركزى مع ممثلي شركات الصرافة فى أوائل فبراير الماضى، أشار من حضروه إلى طلب المركزى تثبيت السعر عند 8.65 جنيه للدولار، بينما كان مضمون اجتماع قيادات بالبنك المركزي بشركات صرافة أوائل الشهر الحالي، يشير لطلب المركزي التوقف عند سعر 9.25. جنيه للدولار .
ومن شواهد الأزمة أيضاً أنه خلال فترة تولى المحافظ الجديد للمركزي أواخر نوفمبر الماضي، كان رصيد الاحتياطى من النقد الأجنبى 16 مليار و423 مليون دولار، ورغم حصول البنك المركزى على عدة قروض خلال فترة تولى المحافظ منها 500 مليون دولار من بنك التنمية الأفريقى، و150 مليون دولار من الصندوق العربى للإنماء الإقتصادى والاجتماعى، و900 مليون دولار من الصين، ونصف مليار دولار من بنك التصدير الأفريقي، مع ذلك فقد زاد الاحتياطى بنهاية فبراير 111 مليون دولار فقط عن رصيده بنهاية نوفمبر .
وجاء ذلك فى ظل تراجع أسعار الغذاء والوقود في العالم، بما يقلل من فاتورة واردات السلع التموينية، والمشتقات البترولية، علاوة على حصول مصر على كميات من البترول الخام ومشتقاته من الكويت والسعودية بتسهيلات فى السداد .
ومما يؤكد استمرار المشكلة استمرار قواعد الاستيراد الجديدة التي تتطلب من الشركات المستوردة لسلع غير أساسية، التأمين النقدى بنسبة 100 % من قيمة الواردات، بل إن رفع سقوف الودائع الدولارية التى تم إلغاؤها للأفراد وللشركات التى تستورد سلعا أساسية، ستدفعهم للاتجاه لشركات الصرافة لتدبير الدولار ، وهو ما يزيد الطلب عليه وبالتالى يرفع السعر .
الأزمة عميقة
وعندما يرى البعض أن تراجع السعر في السوق الموازية، بعد قرار إلغاء سقف الإيداع للشركات المستوردة للسلع الأساسية، فيجب أن نتذكر أنه ما زال الفرق بين السعر البنكي البالغ 7.83 جنيه، وسعر السوق السوداء 167 قرشا أو 177 قرشا أى بنسبة 21 % ، مما يعنى أن الأزمة عميقة، ولهذا يرى أصحاب الشركات الإنتاجية أن العبرة بتوفير البنوك الدولار لهم بالسعر الرسمي .
ومعروف أن الموارد الدولارية المضمونة للبنك المركزي، تتركز فى أقل من نصف مليار دولار شهريا من عائدات قناة السويس، ومبالغ أقل من الخدمات التى تقدمها القنصليات المصرية للمصريين بالخارج، أما أغلب الموارد فتأتي للشركات الخاصة سواء إنتاجية أو سياحية أو خدمية، ولا إلزام عليها بإيداع حصيلتها بالبنوك .
وعلى الجانب الآخر هناك احتياجات شهرية، لاستيراد السلع التموينية من قمح وزيت وسكر إلى جانب الأدوية والأمصال والمشتقات، والمصروفات الحكومية للسفر للخارج وخدمات النقل الجوى والبحرى وأقساط وفوائد الديون .
ومن الطبيعي أن تلجأ الحكومة للمزيد من الاقتراض، لكن بلوغ نسبة التأمين على الديون المصرية 5.3% ، بنهاية فبراير الماضى، وهو الهامش الذى تتم إضافته إلى سعر الفائدة فى حالة الاقتراض، يشير إلى صعوبة الاقتراض وارتفاع تكلفته.
ويرى البعض أن تتجه مصر للاقتراض من البنك الدولى وصندوق النقد الدولى كحل سريع وفاعل، لكن البنك والصندوق الدوليين لهما شروط؛ أى لهذا الاقتراض تكلفة سياسية واجتماعية إلى جانب أنه لن يكفى الاحتياجات، فقرض البنك الدولى 3 مليار دولار على ثلاث سنوات .
وآخر مفاوضات مع صندوق النقد الدولى كانت عن 4.8 مليار دولار ، بينما يذكر البنك الدولي أن الفجوة الدولارية بمصر تصل إلى 12 مليار دولار سنويا، خلال السنوات الأربع القادمة.
والمهم أن السوق السوداء للدولار لم تعد مقصورة على داخل البلاد، بل إن معظم نشاطها حاليا فى دبى والصين مما يصعب مهمة مواجهتها، والأخطر من ذلك أن كل الإجراءات التى تتم من قبل البنك المركزي والحكومة لمواجهة نقص الدولار، هى إجراءات إدارية ومجرد مسكنات، وليست إجراءات فعالة جذرية تتجه لصلب المشكلة، حتى نستطيع أن نقول حينذاك إن المواجهة الحقيقية للمشكلة قد بدأت .