شهدت المقاطعات الكندية أكبر موجة احتجاج ضد سياسة التعليم الجنسي و”أجندة الجندر” في المدارس، وكان تصدر المسلمين في الحراك من أبرز ملامحه، وقد أظهر حجم الانقسام السياسي والاجتماعي في البلاد، وسط تصاعد الدعوات لاعتماد التعليم المنزلي.
وحملت المسيرات شعار “مسيرة المليون لأجل الأطفال”، حيث طالب المحتجون الحكومات المحلية والفدرالية بعدم التدخل في تعليم أطفالهم، رافعين شعارات مثل “اتركوا أطفالنا وشأنهم”، و”ارفعوا أيديكم عن أطفالنا”.
وبالتزامن، حشد الطرف الآخر صفوفه في مسيرات رفعت الأعلام الملونة التي ترمز إلى جماعات الشواذ والمتحولين جنسيا، وتبادل الطرفان ترديد الهتافات، كما رُصدت بعض الاشتباكات بالأيدي التي فضّتها الشرطة.
وبحسب هيئة الإذاعة الكندية CBC (حكومية)، اعتقلت الشرطة 6 متظاهرين بتهمة “التحريض على الكراهية”، في كل من العاصمة أوتاوا وتورونتو وفانكوفر وفيكتوريا وهاليفاكس، بينما تحدث بعض المشاركين في المسيرات للجزيرة نت عن “انحياز” الشرطة إلى جانب المؤيدين للتعليم الجنسي أثناء قيامهم بمهمة الحماية.
على الصعيد الرسمي، ركزت تصريحات المسؤولين على بالوقوف في صف الشواذ جنسيا والانحياز لهم، وأهمها تصريح مقتضب لرئيس الوزراء جاستن ترودو على منصة “إكس” الذي تجنب التعليق على مطالب المحتجين، واكتفى بالقول “لا مكان لرهاب التحول الجنسي، ورهاب المثلية الجنسية، ورهاب مزدوجي التوجه الجنسي في هذا البلد. نحن ندين بشدة هذه الكراهية ومظاهرها”.
وبعد يومين، جاء الرد من زعيم المعارضة ورئيس حزب المحافظين بيير بوليفير، متهما ترودو بالتهرب من نتائج أفعاله و”شيطنة الآباء”، مضيفا “يجب أن يكون الآباء هم السلطة النهائية على القيم والدروس التي تُدرّس للأطفال، ويجب على ترودو أن يبتعد ويسمح للآباء بتربية أطفالهم”.
وانعكس أثر هذا الانقسام السياسي على الشارع، وتجلى بوضوح أكبر في الجدل المحتدم على مواقع التواصل، حيث تصدرت الوسوم التي رفعها الطرفان قوائم “الترند” في منصة إكس، مما يشير إلى أن هذا الملف سيكون من أهم نقاط الاشتباك في انتخابات عام 2025، لا سيما مع تخلف الليبراليين عن المحافظين في استطلاعات الرأي حاليا.
وقال مدير المعهد الكندي للحضارة الإسلامية في مونتريال إياد أبو حامد للجزيرة نت إن الحراك لم يقتصر على المسلمين بل شاركت فيه مجموعات مختلفة ممن يؤمنون بدور العائلة في المجتمع ولديهم نفس المخاوف، مشيرا إلى أن القانون لا يسمح للقاصرين بشراء الكحول وقيادة السيارات بينما يتيح لهم اتخاذ قرار مصيري بتغيير الجنس بدون إذن الوالدين.
وكان أبو حامد من المشاركين في مسيرات مونتريال، وأعرب في حديثه عن خيبة أمله من ردود الفعل الرسمية والتغطيات الإعلامية، وقال إن بعضها زعم وقوف جهات متطرفة وراءها، مؤكدا أن الحراك انطلق بتنظيم فردي من الآباء بدون أي دور مؤسسي.
وطالب مدير معهد الحضارة الإسلامية الجالية المسلمة بالوعي وتحمل المسؤولية تجاه التحديات. وتابع “ليست مشكلتنا مع التوعية الجنسية من حيث المبدأ، ولكن مشكلتنا مع المحتوى وطرق تعليمه”.
تحظى حكومات المقاطعات الكندية بحُرية تقرير السياسات التعليمية، مع التفاوت فيما بينها، إلا أن جميع هذه السياسات تتجه تدريجيا نحو التعاطف مع التعليم الجنسي وتقبّل جميع الميول والهويات الجنسية.
فعلى سبيل المثال، فرضت الحكومة الليبرالية السابقة لمقاطعة أونتاريو -وهي الأكثر سكانا- مناهج تضمنت دروسا عن العلاقات المثلية والهويات الجنسية، لكن الحكومة الحالية ألغت المناهج في عام 2018 بعدما أثارت جدلا واسعا، وطرحت مقترحا لمناهج بديلة، مع تأجيل هذه المواضيع إلى فصول الطلاب الأكبر سنا.
وقال المستشار التعليمي والمحاضر الجامعي أبو بكر إدريس في حديث للجزيرة نت، إنه يصنح الآباء المسلمين بإلحاق أطفالهم بمدارس إسلامية أو اعتماد التعليم المنزلي، وإن لم يتمكنوا فلا بد من تعزيز علاقاتهم بأطفالهم ومواصلة إشرافهم المباشر على الواجبات المدرسية والأنشطة، مذكرا أن التعليم الجنسي لا يمر عبر المقررات بل بالكتب والقصص الجانبية التي يقترحها المعلمون خلال أنشطة المطالعة، وقد يصعب تتبعها لأنها ليست مقررة.
في السياق نفسه، قال مدير مؤسسة لتطوير مناهج اللغة العربية في مونتريال عماد حلاق للجزيرة نت، إن التعليم هو أكثر المواضيع حساسية لدى المسلمين، نظرا لأهمية العائلة لديهم وحرصهم على هويتهم من الذوبان، مطالبا قادة الجالية بافتتاح المزيد من المدارس الإسلامية غير الربحية.
وأضاف أن “عدم الرضا عن المحتوى التعليمي يأتي بسبب تجاهل المناهج لتاريخ الحضارة الإسلامية، وحشر نظريات علمية تدعو إلى الإلحاد، وإقحام مواد التعليم الجنسي، إضافة إلى أنشطة إضافية للتطبيع مع قيم تتعارض مع الأديان”.
وأوضح حلاق أن النظام التعليمي السائد اليوم يعود إلى بداية الثورة الصناعية في أوروبا، عندما كان من الضروري تدريب العمال على الانتقال من النمط الزراعي الريفي إلى الانضباط في المدن، مما يعني تنشئتهم منذ طفولتهم على الالتزام بالقواعد بطريقة شبه عسكرية، حتى لو كان على حساب الإبداع.
يقول أبو بكر إدريس، إن عدد الطلاب الذين يعتمدون التعليم المنزلي في عموم كندا كان يقدر في 2019 بنحو 40 ألفا، ثم فُرض على الجميع أثناء قيود جائحة كورونا، فكانت تلك فرصة للتجربة مما رفع عدد هؤلاء الطلاب إلى 85 ألفا بعد رفع القيود.
ويضيف أن إحصاءات العام المنصرم لم تصدر بعد، متوقعا ارتفاع العدد إلى 100 ألف، وذلك لأسباب عدة، أهمها تخوف الآباء من الانحراف الأخلاقي خصوصا لدى الشريحة المسلمة، وتلقي أفكار قد تؤثر على الميول الجنسية، والتنمر.
كما يتحدث حلاق عن نجاح تجربته في التعليم المنزلي مع أبنائه، ويقول إن عدد المدارس الحكومية والبديلة لا يستوعب التزايد السكاني ولا يلبي تطلعات الارتقاء إلى التعليم الإبداعي، لذا ينصح الآباء المسلمين بالتعليم المنزلي.
ويضيف أنه يمكن تعزيز التعليم المنزلي بالاستعانة بمؤسسات تقدم دروسا خاصة، مؤكدا نجاح الكثير من الطلاب في دراسة مناهج سنتين خلال سنة واحدة.
ولتقصي هذه التجربة، التقت الجزيرة نت بعمر عبد الفتاح، الذي افتتح مؤخرا في كولومبيا البريطانية مركزا لدعم الطلاب المسلمين في التعليم المنزلي، وقال إن الطلاب يعربون عن سعادتهم إلى درجة امتعاض أحدهم من العطلة الأسبوعية.
ويقدم هذا المركز بديلا للمدرسة النظامية، حيث تُدرّس فيه نفس المناهج إلى جانب التعليم الإسلامي، مع تعويض الأنشطة الاجتماعية التي يفتقر لها التعليم المنزلي، ويضيف عبد الفتاح أنهم بصدد افتتاح فروع أخرى، وأن إجراءات تأسيس هذه المراكز أسهل بكثير من تأسيس مدارس خاصة.