من وحي الهجرة .. عٌدة المُطارَد (2)

 5-  كن دائم الاستعداد للتضحية في أي وقت وبأعز ما تملك:

 ألا تُريد أن تُزاحم صُهيبًا رضي الله عنه – الذي ضحى بكل ماله –  في الجنة؟، ألا تريد أن تُزاحم أبا سلمة رضي الله عنه عندما ساومه أقاربه وأهل زوجته على ترك زوجته وأولاده ليسمحوا له بالهجرة؟. عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: ” ما من عبد ترك شيئاً لله إلا أبدله الله به ما هو خير منه من حيث لا يحتسب، ولا تهاون به عبد فأخذ من حيث لا يصلح إلا أتاه الله بما هو أشد عليه ” . ( رواه وكيع في الزهد). فنيتك هذه تُكسبك سيلاً من الحسنات وفيضاً من النفحات كما تُكسبك نًفَسَاً طويلاً وصبراً جميلاً على نوائب الدهر.

6- ثق بمعية الله تعالى وتسخيره لجنود لا تراها ولا تتوقعها:

 قال تعالى: ” وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ {31} ” ( المدثر 31 ). من كان يتوقع يوماً أن يكون أبو جهل مُدافعاً عن حُرمة بيت محمد صلى الله عليه وسلم ومانعاً للمشركين أن يقتحموا البيت ليلاً فيُفزِّعوا بناته صلى الله عليه وسلم ؟ ذكرَتْ بعضُ كتبِ السّيرة النبويَّة أنّ أحدهم قال لأبي جهل: يا أبا الحكم  هل نحن قاتلون محمداً؟ قال  نعم، قال: فلِمَ الانتظارُ حتى الصّباح, لِمَ لا نتسوّر عليه وندخل البيت ونقتله ونستريح؟ فقال له أبو جهل: وتقول العرب إن أبا الحكم قد روَّع بنات محمد في بيتهن؟! إنّه لسبَّةٌ في العرب أن يُتحدَّث أنَّا تسوَّرنا على بنات العمّ وهتكنا الحُرمة, لا واللّاتِ لا تفعلوا.

 إنّه مشهدٌ عجيب؛ فأبو جهل ـ فرعون الأمة ـ رغم الحقد والبُغض الذي يحمله في قلبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم رفضَ اقتحامَ البيت وترويع البنات, منعَه خوف العار وسُبّة النّاس له (الرأي العام), كما منَعَته منظومةُ القيمِ التي كانت سائدةً في ذلكَ المجتمعِ رغمَ غرقه في جاهليَّةٍ جهلاء, فهو يعلم أن هناك أخلاقاً إنسانية وأن هناك خطوطاً حمراء لا يجب أن تنتهك مهما كانت الظروف.

– من كان يظن أن سُراقة بن مالك الذي سال لعابه ليفوز بالجائزة التي رصدتها قريش لمن يأتي بمحمد حياً أو ميتاً سيعود مُنكباً على وجهه بعد أن رأى آيات الله عز وجل وبعد أن بشَّره النبي صلى الله عليه وسلم بسواري كِسرى فعاد أدراجه يُعَمِّي من يطاردون النبي صلى الله عليه وسلم للفتك به؟.  

– من كان يعتقد أن الله تعالى سيُسخر عبد الله بن أريقط –  وكان على دين قومه من قريش – ليتولى توصيل الراحلتين إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي الله عنه عند غار ثور بعد ثلاثة أيام؟.

وهناك الأمثلة العديدة التي لا يتسع المقام لذكرها .

– فلتعلم أيها المُطارد أن ” القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يُقلبها كيف يشاء” ولتوقن بأن قدر الله تعالى هو الغالب وما قدره الله هو الكائن، ولتتأكد ” أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك” .  

7- عدم التخلي عن الدعوة في أحلك الظروف: 

إن المسلم الذي تغلغلت الدعوة في شِغاف قلبه لا يفتر لحظة واحدة عن دعوة الناس إلى دين الله تعالى، مهما كانت الظروف قاسية والأحوال مُضطربة، والأمن مفقودًا، بل ينتهز كل فرصة مناسبة لتبليغ دعوة الله تعالى.

أ- ذكر ابن حجر العسقلاني ـ رحمه الله ـ : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم في طريق هجرته إلى المدينة لقي بُريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث الأسلمي، فدعاه إلى الإسلام، وقد غزا مع الرسول صلى الله عليه وسلم ست عشرة غزوة وأصبح بُريدة بعد ذلك من الدعاة إلى الإسلام وفتح الله لقومه أبواب الهداية على يديه، واندفعوا إلى الإسلام وفازوا بالوسام النبوي الذي نتعلم منه منهجاً فريداً في فقه النفوس قال صلى الله عليه وسلم : ” أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها، أما والله ما أنا قلته ولكن الله قال”.

ب ـ وفي طريق الهجرة أسلم لصان على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان في طريقه صلى الله عليه وسلم بالقرب من المدينة لصان من قبيلة أسلم يقال لهما المُهانان، فقصدهما صلى الله عليه وسلم وعرض عليهما الإسلام فأسلما ثم سألهما عن أسمائهما فقالا نحن المُهانان، فقال: بل المُكرمان، وأمرهما أن يقدما عليه المدينة.

– فالدعوة بالنسبة للداعية هي الروح التي تسري في أوصاله, فلا قيمة له بدونها وبقدر عطائه لهذه الدعوة بقدر الدفء الذي يشعر به وانشراح الصدر وطمأنينة النفس بل والشعور برضا الله تعالى بأن استعمله لخدمة هذا الدين. 

8- الرحب والسعة أشد ابتلاءً للمُطارد من الضيق والقهر:

إذا منَّ الله تعالى على المُطارد بالأمن والاستقرار ورغد العيش فليعلم أن ذلك اختبار من الله عز وجل فلا تغره الدنيا وزينتها ولا يُكثِر من حطامها ولا يُنافس طلابها بل يُكثِر من شُكر الله تعالى على هذه النعمة وليُضاعف عطاءه لهذه الدعوة ولا ينسى أنه عاهد الله تعالى على الاستقامة والثبات وليتخذ القدوة والأسوة الحسنة من النبي صلى الله عليه وسلم فعندما وصل صلى الله عليه وسلم المدينة:

– أصلح بين الأوس والخزرج للحفاظ على لُحمة المجتمع قوية صلبة وليتخلوا عن نزعة الجاهلية .

– آخى بين المُهاجرين والأنصار للحفاظ على تقوية الروابط الاجتماعية بينهما وليعلموا أنهم في الله إخوة .

– اختار مكاناً مُناسباً لبناء المسجد لتقوية الجانب الإيماني فهو السياج الذي يحفظ للأمة الإسلامية هويتها.

– أسس سوقاً لضمان قوة الجانب الاقتصادي حتى لا يتسول المسلمون قوتهم من غيرهم.

إذاً هو مجهود مُضنٍ لا راحة فيه, وعمل شاق لا هوادة معه. فإياك ثم إياك أن تقع تحت قوله تعالى: ” وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ” ( التوبة 75 – 77 ) .

 – عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول  ” من كانت الدنيا همَّه، فرّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له، ومن كانت الآخرة نيّته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة ”  (رواه ابن ماجه وابن حبان ) .

– وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: “من جعل الهموم هماً واحداً؛ هم آخرته، كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك ” ( رواه ابن ماجه ) .

– فلا تُفرق همومك .. واجعل الهمين هماً واحداً .. ولا تحزن ولا تأس على ما فاتك من حُطام الدنيا .. ولا تحمل هماً لم ينزل بك .. ولا تلم الناس على ما فيك مثله .. ولا تتمنى مالا تملك .. ولا تبني بخيالك قصوراً شامخة لست بساكنها .. ولا تفني طاقتك في جمع مال لست بمُنفقه بل ستتركه لمن بعدك يتنعمون به وستحاسب أنت عليه .

– فالهجرة لم تكن فراراً من الشدائد والآلام بمكة، ولا بحثاً عن الراحة والدعة بالمدينة، ولا طلباً للدنيا وحُطامها، ولكنها أولا وقبل كل شيء استجابة لأمر الله ورسوله، وطلباً لمرضاة الله ونصرة لدينه حيث قال تعالى: ” لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ”  ( الحشر 8).

– فالهجرة لم تكن فراراً من الجهاد أو تهرباً منه، وإنما كانت إعداداً لأعبائه، و لم تكن خوفاً من الأذى، و لكن توطيداً لدفعه، ولم تكن جَزَعاً من المحنة، و لكن توطيناً للصبر عليها. أجل لم تكن فراراً من القَدَر، ولكنها كانت فراراً إلى القَدَر, ولم تكن الهجرة مُجرد انتقال مكاني، وإنما كانت فاتحة العمل الجاد المتواصل لتغيير الأرض، وتحويل مجرى التاريخ، ووضع أسس البناء الإسلامي الشامخ .

شاهد أيضاً

د. علي الصلابيّ يكتب : الحج المبرور ويوم عرفة…أسرار وفضائل

لحج أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام، فرضه الله على عباده في العمر مرة واحدة، وما …