“مهنة من يرغب في المعتقل”، هكذا يصف الكثيرون في مصر مهنة الصحافة بعد انقلاب 3 يوليو 2013، ويرون فيها أقصر الطرق للحصول على “زنزانة” بدلاً من الجلوس على المقاهي، خصوصاً أنها لا تحتاج لجهد كبير، فيكفي أن تحمل آلة التصوير وتنزل إلى تظاهرات رافضي الانقلاب وتجد خرطوش الشرطة ينهمر فوق رأسك كالمطر.
بعد ثورة 25 يناير، شعر كثير من الشباب الذي شارك في التظاهرات أن لديه فكراً سياسياً ينبغي أن يعبّر عنه، جمعت مهنة الصحافة بين هذا التوق وبين حاجة الشباب إلى إيجاد وظيفة تمكنهم من العيش، ومن متابعة نشاطهم السياسي.
آمال التغيير التي وُلدت مع الثورة جعلتهم يعتقدون أن العالم سيتغيّر، وأن وسائل الإعلام ستتحوّل إلى منابر لأصواتهم، لم يكونوا يعلمون أنهم على موعدٍ مع انقلاب عسكري دموي، لا يفرق بين صحفي ومتظاهر، طالما أن هدفه نقل الحقيقة التي يمنعها العسكر. لم يكونوا يعلمون أنهم خطوا أول خطوة على طريق فقدان حريتهم.
قلاش يعترف
يحيي قلاش، نقيب الصحفيين المؤيد للانقلاب، قال خلال حواره مع قناة «سي بي سي» أنه :”مازال هناك “ترزية قوانين” وأعداء لحرية الصحافة”، إنه: ” لا توجد حرية طالما لا توجد أي حرية للصحافة، وأي دولة تتجه إلى الديمقراطية، لابد أن ترفع شعار حرية الصحافة”.
وأضاف نقيب الصحفيين، أن: “بعض المتصدرين للتشريع والعمل التنفيذي لا يعلمون أن الصحافة عمرها أكثر من 300 سنة، ونقابة للصحفيين التي جمعت الكثير من الأدباء والعلماء”، موضحًا أن :”قوة مصر الناعمة جيش ولكنه معطل”.
الحرية المفقودة
بعد الثورة، ظهر في مصر كم هائل من القنوات والصحف والمواقع الإخبارية، التي يديرها العسكر مباشرة أو عن طريق وكلاء وسماسرة فساد، ربما يفوق ما يوجد في جميع البلدان العربية، وتحول الصراع من الشارع إلى صراع على السيطرة على قطاع الإعلام والتقدم في مؤشرات القراءة.
واستغلت الفلول الأموالَ الضخمة التي جمعوها في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك للسيطرة على هذا القطاع وتلميع صورتهم من جديد ومحاربة القوى الإسلامية التي تصدرت المشهد السياسي. كذلك، استثمر العديد من الأنظمة العربية، خاصة الخليجية، الكثير من الأموال لفتح منابر إعلامية تواجه الفكر الثوري الخطر على عروشهم.
الغريب في هذه المؤسسات أنها تضم مجموعة كبيرة من الصحفيين الشباب، الذين لا يتفقون مع مبادئها وتوجهاتها، لكنهم قبلوا العمل فيها لتحصيل “لقمة العيش”، ونتج عن عملهم هذا مساهمتهم في إنجاح هذه المؤسسات، وقتل المبادئ التي يؤمنون بها، والتي دفع أصدقاؤهم في الميادين دماءهم لتحقيقها.
بدع صحفية
يروي أحد الصحفيين في موقع “صدى البلد”، تجربته ويقول: “بعد الثورة عملت مترجماً للأخبار السياسية. بدأت ممارسة مهنة الصحافة في مؤسسة منسجمة مع قناعاتي، لكن مع مرور الوقت وتبدل الهيئة التحريرية وجدت نفسي أمام خيارين: إما أن أكون في الشارع بلا عمل أو أعمل مع صحف ضد قناعتي”، ويضيف: “ولأن راتبي هو قوام حياتي، قررت أن أستمر كمترجم وأوافق على توجهات الإدارة والتنازل عن رؤيتي في كتابة التقارير إلى حين”.
ومن الشائع في الصحافة المصرية، أن تنشر وسائل الإعلام ترجمات محرّفة، أو موجّهة بشكل يخالف النص الأصلي تماماً، ومنها هذه الحالة التي يرويها أحد الصحفيين، وهو صحفي شاب ترك “اليوم السابع” أخيراً.
يقول: “في إحدى المرات ترجم أحد زملائي خبراً نقلاً عن صحيفة لوس أنجلوس بوست وفيه أن المخترع المصري الصغير باشر إجراءات تقديم اللجوء إلى أمريكا بعد بلوغه سن الـ18 عاماً. لكن الموقع نشر خبراً قال فيه إن المخترع الصغير سيتعرض للترحيل”، ويتابع: “على الرغم من أن الخبر لا ينص على ذلك لكن ظروف سفر الولد والاتهامات التي كانت موجهة له في مصر، دفعت الصحيفة إلى اختيار هذا العنوان المسيء له. حينذاك، اعترض زميلي وحصلت مشكلة، لكن العنوان بقي على حاله لأن الإدارة أرادت ذلك”.
موقف آخر مشابه تعرض له، ويقول: “حين كنت أعمل في أحد المواقع، طلب مني رئيس التحرير ترجمة موضوعين من صحف أجنبية ووضعهما في تقرير واحد. كان أحد التقريرين ينتقد السيسي والنظام في مصر، والثاني يدافع عن المثليين. وطلب مني صياغة عنوان تقريري تحت عنوان واحد يشير إلى أن هذه الصحف تدافع عن المثليين وتهاجم السيسي. قمت بما طلبه مني ولكنني فضلت ألا أضع اسمي عليه”.
لهذا النوع من ضغط العمل تأثيرات نفسية شديدة على الصحفيين الشباب، يقول الصحفي الشاب: “الأمر غريب، فبعيداً عن رقابة الدولة تتولد رقابة ذاتية. يُقدّر صحافيون كثيرون أين يكون خط الدولة ويصيغون أخبارهم وتقاريرهم بطريقة تتماشى معه حتى لا يتعرضوا لمضايقات من المؤسسة. هذا عدا قيام فريق التحرير بحذف كل ما يخالف التوجهات الرسمية”.
السكوت بأي ثمن
نجحت سلطة المؤسسات الصحفية التي تبتز العاملين لديها بمعيشتهم، في توليد نوع من الخضوع التام لتعليماتها، يقول أحد الصحفيين :”قبولي العمل في هذه الأماكن مقابل راتب معين يعني قبولي الخط السياسي الذي يتبعونه وليس لي حق الاعتراض”، ويؤكد أنه عمل في مواقع عدة داعمة للانقلاب العسكري.
عدم دفاع النقابة عن حقوق الصحفيين، وشعورهم بأن القضاء لن يعطيهم حقهم إذا ما تشجعوا وتصدوا لمؤسسات لا تتوانى عن فصلهم، إنْ لم ينفذوا أوامرها, أفقدهم الشعور بالأمان، يقول أحد الصحفيين: “ازداد الأمر صعوبة بعد 30 يونيو، راحت المواقع والصحف تدافع عن النظام وتبرر أفعاله، لكننا مضطرون للقبول بذلك، فرواتب العمل في هذه الأماكن أعلى جداً من رواتب العمل في مواقع تتفق توجهاتها مع آرائنا أو في وظائف أخرى”.
ويوضح “آخر” يعمل في جريدة الوطن: “تقريباً، نعترض علناً على أغلبية ما ينشر على الصفحات الأولى. لكننا نطبق نظرية مبارك: انتقدوا ما شئتم، وسأفعل ما شئت”.
صنايعية!
هذه التناقضات الفكرية والنفسية خلّفت نتائج عكسية على قطاع الصحافة، “الفلول ودول الخليج دمروا الصحافة في مصر”، يقول أحد الصحفيين، ويتابع: “الارتهان المادي قضى على المعايير المهنية في الصحافة المصرية وجعلها منابر لا تأبه لشؤون المواطنين وتعبّر عن مواقف مموليها”.
ويؤكد: “المشكلة الأخرى هي انعدام الاحتراف في طريقة الكتابة، وهذا ما أنتج جيلاً من الصحافيين يجعلونك تكره المهنة وما يصدر عنها، بعد أن أصبحت مصدراً لأكل العيش”.
ونتيجة لذلك تحول الصحفي إلى ما يشبه “الصنايعي”، يعمل ما يطلب منه دون أن يفكر، وتحوّلت الصحف والمواقع إلى ما يشبه متاجر، يديرها صاحب العمل، على ما يقول أحد الصحفيين، ويضيف أن “مفهوم الصحفي الصنايعي أنتج صحفيين “كم بلا كيف”، لأنه كلما كتبت أكثر زاد راتبك وتقربك من الإدارة”.
غياب الشعور بالانتماء النفسي والفكري إلى المؤسسة حوّل الصحفيين إلى رُحّل، لفت أحد الصحفيين إلى أن “تخليهم عن مبادئهم لأول مرة أفقدهم الارتباط النفسي بالمؤسسة. ونتيجة لذلك فإنهم يرحلون عنها مع أول فرصة عمل تؤمن لهم مردوداً أعلى”.
لهذه الأسباب، يقول أحد الصحفيين, رسمت النخبة السياسية صورة سيئة عن الصحفيين، فهم في رأيها “انتهازيون يتنازلون عن مبادئهم مقابل بعض المصالح الشخصية”.
مكان في السجون
وقالت لجنة حماية الصحفيين الدولية (مقرها نيويورك)، في تقرير خاص “إن مصر تحبس أعدادًا قياسية من الصحفيين، حيث تحل في المرتبة الثانية بعد الصين بوصفها البلد الذي يحبس أكبر عدد من الصحفيين في العالم عام 2015″، مشيرة إلى حبس 23 صحفي هذا العام. ولا تتضمن القائمة العديد من الصحفيين الذين احتُجزوا وأفرج عنهم على مدار العام.
وقالت اللجنة إنه يوجد 18 صحفيا على الأقل في السجون المصرية، يواجه معظمهم اتهامات بالانتماء لجماعة الإخوان وإن السلطات تحتجز 18 صحفياً آخرين على الأقل لأسباب مرتبطة بتغطيتهم الصحفية، بخلاف من أفرج عنهم والمختطفين والمختفين.
ويمكن رصد التناقض بين الصحفيين ومؤسساتهم، بمجرد الدخول على حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، فشتان ما بين الأخبار والتقارير التي تحمل أسماءهم في الصحف والمواقع الالكترونية، وبين ما ينشرونه على فيسبوك أو تويتر، كما أن البعض يحاول اتخاذ طريق آخر عبر التدوين أو الكتابة في مواقع خارج مصر تعطيهم الحرية التي يفتقدونها في ظل الانقلاب العسكري.