لم يكن إعلان قائد مليشيا الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، في 15 أبريل/نيسان 2025، عن تشكيل حكومة انفصالية موازية في السودان، أمرا مفاجئا للسودانيين والعالم.
فقد تحدث عن هذا الخيار عدة مرات سابقا، بالتزامن مع كشف قائد الجيش عبد الفتاح البرهان أواخر عام 2024، نيته تشكيل حكومة جديدة في بورتسودان، حيث مقر إقامته، قبل تحرير الخرطوم من قوات حميدتي.
لكن الجديد والخطير في الإعلان قوله: “سنطبع عملة وسنصدر وثائق هُوية جديدة”، في إشارة إلى سعيه لتشكيل دولة منفصلة بالكامل، لا مجرد حكومة موازية، وفق تقرير نشره موقع “الاستقلال”.
وهو ما يطرح تساؤلات حول الهدف منها خاصة أنه هدد بتشكيل حكومة عدة مرات ولم يفعل، ولكن، عقدت المليشيات التي يتزعمها اجتماعات في العاصمة الكينية نيروبي، بين 20 إلى 23 فبراير/شباط 2025 وأصدرت ميثاقا سياسيا كمقدمة لتشكيلها.
لماذا الآن؟
أهمية توقيت إعلان الحكومة الموازية أنها جاءت بعد سلسلة هزائم منيت بها قوات “حميدتي” بعد ثلاثة أعوام من الحرب، وطردها من العاصمة الخرطوم.
وشبه انحصار نفوذها في دارفور بولايته الخمسة، ما يشير إلى أنها “دولة انفصالية” لحكم الإقليم، لا مجرد بديل لحكومة السودان.
وتسيطر قوات الدعم السريع على معظم منطقة دارفور في غرب البلاد ومساحات شاسعة من منطقة كردفان في حرب مستمرة منذ ما يقرب من عامين.
فهل تصبح “حكومة مصغرة” أم دويلة تحكم دارفور فقط؟ خاصة أن قوات حميدتي كثفت هجماتها، بعد هزائم الخرطوم، للسيطرة على “الفاشر”، خامس مدينة لا تسيطر عليه في الإقليم كي تتمكن من السيطرة عليه بالكامل.
ويرى محللون أن قوات الدعم السريع ستركز في الفترة المقبلة على تأمين المناطق الحدودية وضمان خطوط إمدادها.
وهو ما يعزز الانقسام في البلاد التي يسيطر الجيش السوداني على شمالها وشرقها بينما تسيطر المليشيا وحلفاؤها على غربها ومناطق في جنوبها.
ودفع هذا قائد مليشيا البراء بن مالك، المصباح أبو زيد، التابعة للحركة الإسلامية، المتحالفة مع الجيش، للإعلان 17 أبريل 2025، عن نية قواته التوجه إلى مدينة الفاشر شمال دارفور للقضاء على مليشيا دقلو ومنع سيطرته على كل الإقليم.
أهمية التوقيت، ثانيا، أنه جاء بعد تصاعد الخلافات بين حكومة البرهان والنظام الحاكم في أبوظبي إلى حد جر الأخيرة للمحاكم ومحاكمتها أمام محكمة العدل الدولية بتهم دعم تنفيذ جرائم حرب وإبادة عبر مساندة قوات حميدتي.
وثالثا، أن الفترة الراهنة، تشهد منذ مجيء إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، محاولات كل من حميدتي والبرهان لتقديم أوراق اعتماد لواشنطن، وكالعادة يسارعان لفعل ذلك عبر استخدام “إسرائيل” كبوابة لعبور البيت الأبيض.
إذ سعت أبو ظبي لتقديمه (حميدتي) كطرف مفيد للخطط الأميركية في السودان والمنطقة ضد “الإسلاميين”، خاصة أن ميثاق نيروبي بشأن حكومته أشار بوضوح لإقامة “دولة علمانية ديمقراطية غير مركزية”
أيضا قدمته أبوظبي، للغرب، بصفته مفيدا لإسرائيل، حليفة الإمارات، ما دفع البرهان على ما يبدو لتجديد تحالفه مع تل أبيب.
وبدأ البرهان هذه الخطوات بلقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أوغندا، ثم تبادلت حكومته زيارات مع تل أبيب عام 2022.
وكشف مصدر عسكري داخل الجيش السوداني أن البرهان أرسل في أبريل 2025، مبعوثه الشخصي الفريق الصادق إسماعيل إلى مهمة في تل أبيب أحيطت بالسرية، وفق صحيفتي “تايمز أوف إسرائيل”، و”الراكوبة” السودانية.
كما كان لافتا أن من تعيين البرهان لـ “عمر الصديق” وزيرا جديدا للخارجية، بدل الوزير المُقال “علي الشريف”
وظهر الصديق سابقا في لقاء مع وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي وسفير تل أبيب السابق بالأمم المتحدة “جلعاد إردان”
ومع هذا يرى محللون سودانيون أن إعلان حميدتي حكومته الانفصالية، “ربما يندرج تحت خانة الضغوط السياسية لإجبار الجيش على التفاوض معها، بعد تقدمه ميدانياً واستعادة عدد من الولايات والمدن”، وفق موقع “الراكوبة” 17 أبريل 2025.
بيان دقلو
وجاء في بيان حميدتي على “تلغرام” بشأن تشكيل الحكومة الموازية أن حكومته ستوفر “الخدمات الأساسية” بما فيها التعليم والصحة والعدالة، بالإضافة إلى إصدار وثائق هوية جديدة وعملة مختلفة.
وصفها بأنها “حكومة السلام والوحدة”، وتمثل “تحالفا مدنيا واسعا يمثل الوجه الحقيقي للسودان”، بعدما هاجم تغلغل الإسلاميين في الجيش السوداني واتهم تياراتهم المختلفة بأنها تسيطر على البلاد.
قال: إن هذا التحالف المدني الواسع “يمثل الوجه الحقيقي للسودان، مع جميع القوى المدنية والسياسية والجبهة الثورية السودانية والمجتمع المدني والمنظمات الإنسانية والحركات الشبابية ولجان المقاومة”
وهي القوى التي وقع معها ميثاقا سياسيا ودستورا انتقاليا زعم أنه يؤرخ لـ “سودان جديد”، والتي لا تتعدى 5 أشخاص.
فلم يوقع على “الميثاق السياسي” في نيروبي، فبراير/شباط 2025، سوى: عبد الرحيم دقلو عن قوات الدعم السريع، وجوزيف توكا عن الحركة الشعبية شمال بقيادة عبدالعزيز الحلو، والهادي إدريس عن حركة تحرير السودان المجلس الانتقالي.
كما وقع عليه رئيس حزب الأمة القومي فضل الله برمه ناصر، والقيادي بالحزب الاتحادي الأصل إبراهيم الميرغني.
وكان الميثاق السياسي الموقع من جانب تحالف حميدتي في نيروبي فبراير/شباط 2025، قد نص على أن يكون الحكم في السودان “ديمقراطيا تعدديا لا مركزيا يعترف بحقوق الأقاليم في إدارة شؤونها السياسية والاقتصادية والثقافية”
ويتوقع أن تكون حكومة حميدتي “الموازية”، لحكومة البرهان، والتي تعمل من بورتسودان، مقرها في دارفور، أو “كاودا” جنوب كردفان، لا الخرطوم التي فقد السيطرة عليها.
وفي المقابل، يتوقع أن ينقل الجيش حكومته من بورتسودان إلى العاصمة بعد إحكامه السيطرة عليها.
وهو ما يشير ضمنا إلى تهيئة هذا الميثاق وتقديمه الأساس القانوني لانفصال حميدتي بدارفور وتدشين حكومة انفصالية بها، لأنه يعترف بـ “حقوق الأقاليم في إدارة شؤونها السياسية والاقتصادية والثقافية”.
وكان لافتا أيضا مطالبة حميدتي الرئيس الأميركي دونالد ترامب بلعب دور محوري لإنهاء الحرب، لافتا إلى أنه يؤمن بحكم الأقاليم عبر نظام فيدرالي، وفقا لوكالة الأنباء الفرنسية.
والمفارقة أن حميدتي قال: إنه يهدف إلى أن “يكون السودان أرض صناديق الاقتراع لا الرصاص، وأرض الحوار لا الهيمنة”، برغم تكشف العديد من مجازر وانتهاكات قواته.
وقال: “أحلم بسودان حر ديمقراطي تعددي ومسالم، لا تكمن قوته في السلاح بل في إرادة السلام”. وتأتي مزاعمه على الرغم من أنه هو من بادر بالهجوم على الجيش قبل 3 سنوات واحتل الخرطوم ومقر قيادة القوات المسلحة وبدأ في تدمير مدن السودان.
وأكد حميدتي أن قوات الدعم السريع “لن تسمح أبدا بسيطرة (العسكر النظاميين) على كل البلاد”، بحجة الخشية من “عودة الطغيان السابق”. وأشار إلى أن “الجيش السوداني يعتمد على الدعم المصري والإيراني”، وفق زعمه.
وقال: إن “الحركة الإسلامية، التي يدين لها جيش البرهان بالولاء، اختطفت ثورة ديسمبر 2018″، ضد الرئيس السابق عمر البشير.
وكانت وكالة “رويترز” البريطانية، نقلت، في 23 فبراير 2025، عن سياسيين سودانيين قولهما إن الميثاق الموقع بين قوات الدعم السريع والجماعات المتحالفة معها يدعو إلى إقامة “دولة علمانية ديمقراطية غير مركزية”
وجاء إعلان الحكومة بعدما أطلقت قوات حميدتي هجوماً جديدا يوم 14 أبريل، عند أطراف الفاشر التي تحاصرها، بهدف السيطرة عليها، واحتلت مخيم زمزم الذي يعاني المجاعة، بعد يومين من القصف المدفعي العنيف وإطلاق النار.
ونقلت الأمم المتحدة، عن “مصادر موثوقة” تأكيدها أن حصيلة هذه المعارك تجاوزت 400 قتيل، بينما فر نحو 400 ألف شخص من المخيم، حسبما أفادت المنظمة الدولية للهجرة.
وعزز “ميثاق” حميدتي السياسي، وتشكيله حكومة منفصلة في المناطق التي تسيطر عليها، مخاطر انقسام وتفتت السودان مجددا بعد انفصال جنوب البلاد عنه 2005.
مع هذا قال حميدتي، مبررا قراراته الانفصالية، إن إصدار البرهان أخيرا لعملة جديدة، وقصر إقامة امتحانات الشهادة السودانية على المناطق الخاضعة لسيطرته، “خطوة خطيرة نحو التقسيم الفعلي”
قال: “إنه (البرهان) يعيد إلى الأذهان الأخطاء المأساوية التي أدت إلى انفصال الجنوب، واليوم يسعون مجددا، ليس على أساس الحدود فحسب، بل على أساس الهوية والعرق والانتماء”
وكانت قوى سودانية انتقدت قرارات البرهان في هذا الصدد، رغم تفهمها ظروف الحرب والسيطرة على الامتحانات، ومحاولة إجهاض ما تردد عن طبع حميدتي (عبر الإمارات) عملات سودانية، لكنها حذرت من استغلالها لصالح قائد المليشيا.
دويلة إماراتية
وطرح إعلان الحكومة الموازية الآن، بعد هزائم حميدتي المتتالية، تساؤلات حول دور الإمارات في تشكيلها وهل هي “دويلة إماراتية” داخل السودان؟ ومن يعترف بها؟ وما تداعيات إعلانها؟
خبراء وتقارير سودانية رأت أنها دويلة تُصنع على أعين أبوظبي، وأن الإمارات ستكون أول من يعترف بها ويتعامل معها أو الاستمرار بدعمها سرا بالسلاح والعتاد والمرتزقة مقابل ذهب السودان الذي يسيطر عليه وينهبه حميدتي وشركاته.
ويقول القيادي في تجمع المهنيين السودانيين “محمد ناجي الأصم”: إن “أموال الإمارات هي التي تحدد (طبيعة) حكومة حميدتي ووزرائه مثلما فعلت في الصومال وليبيا واليمن”
وتابع: ستضاف حكومة الجنجويد إلى مشاريع الإمارات الانفصالية في ليبيا واليمن والصومال، والتي تسعى عبرها إلى تعزيز مصالحها الاقتصادية من موارد الشعوب المنهوبة، وتوسيع نفوذها في المنطقة واستخدامها كأدوات للمساومة على القضايا والملفات الإقليمية”
كتب عبر فيسبوك أن حكومة الدعم السريع القادمة بلا مشروع، وستعتمد كما فعلت دائمًا، على سلاح مليشياتها وأموال الذهب المهرب وأموال المواطنين من الغنائم، وعلى أموال ونفوذ الإمارات.
وقد دعا حميدتي الاتحاد الإفريقي إلى الاعتراف بحكومته بدعوى أنها تمثل “الإرادة الديمقراطية للشعب السوداني”، وعدم البقاء رهينة لمدبري الانقلاب في بورتسودان”، وفق قوله.
وحين أقال البرهان وزير الخارجية علي يوسف، ذكرت مصادر سودانية لـ “الاستقلال” أن السبب هو تصريحات أغضبته قالها لقناة “العربية” السعودية.
فقد تحدث “يوسف” عن أنه “لا يمكن تشكيل حكومة مدنية في السودان قبل هزيمة الدعم السريع”، ليسجل اعتراضه على حكومة البرهان ضمنا، لذا تمت إقالته.
كما نقلت قناة “العربية الحدث” عن الوزير المُقال من منصبه، قوله إن 3 أو 4 دول فقط ستعترف بالحكومة التي أعلنت عنها الدعم السريع لا أكثر، ما عده البرهان أيضا خطأ سياسيا لأنه يعني أن هناك من سيعترف بحكومة حميدتي.
وقوبل اعلان حميدتي عن تشكيل حكومة موازية بردود فعل دولية وإقليمية ناقدة. وقال ستيفان دوجاريك المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة: “نشعر بقلق بالغ”، ووصف ما يجري بأنه “يزيد تفكيك البلاد وترسيخ الأزمة”.
وهاجم اعلاميون مصريون مقربون من النظام، حكومة حميدتي، ووصفها رئيس تحرير الأهرام السابق، عبد الناصر سلامة”، في مقال بصحيفة “المصري اليوم” 19 أبريل، بأنها “حكومة الخراب”
لكنه قال: ربما يزداد المشهد تعقيدًا إذا نجحت قوات الدعم السريع في السيطرة على مدينة الفاشر، بما يعنى إمكانية انفصال إقليم دارفور فعليًا، وهو السيناريو الأسوأ في السودان ويؤدى إلى تقسيم وتفتيت السودان إلى إقليمين منفصلين.
كما أدانت الحكومة البريطانية تشكيل حكومة منافسة في السودان، ووصف متحدث باسم خارجيتها في بيان “الإعلانات الأحادية الجانب الهادفة إلى تشكيل حكومة موازية” بأنها “ليست الحل”
وحذر وليد بن عبد الكريم الخريجي نائب وزير الخارجية السعودي خلال مؤتمر لندن الدولي حول السودان، من الدعوات إلى تشكيل حكومة موازية أو أي كيان بديل في السودان.
ووصفها بأنها “محاولات غير مشروعة تهدد المسار السياسي، وتُعمّق الانقسام، وتُعرقل جهود التوصل إلى حل وطني شامل.
وكانت المفارقة أن لانا نسيبة، مساعدة وزير خارجية الإمارات للشؤون السياسية قالت إن دولة الإمارات لا تعد أيا من الجيش السوداني وقوات الدعم السريع يمثلان الشعب السوداني، للتبرؤ من دعم بلادها لحميدتي بعد تقديم دعوى قضائية دولية ضدها.