عندما تفقد الأوطان القدرة على الفرز بين الشهداء والقتلى، فهذا يعني مباشرةً أنها باتت من البلادة بحيث لم تعد تفرق بين معاركها الحقيقية ومعاركها المزيفة.. وفي هذه الحالة، اعلم أنها انتقلت من مرحلة الصراع على من يحكم إلى الصراع على من يعيش، وهي حالة، إن استطالت، تنتهي بالهزيمة الحضارية الشاملة.
يسقط شهداءٌ للقمع والفساد والإرهاب النظامي، في الداخل، فيتحوّلون، حسب التصنيف الرسمي، إلى قتلى، وربما مجرمين مدانين، لتشتغل آلة عملاقة بوقود القبح والسفالة، تطلب من المواطن الاحتفال بموت الجار أو زميل الدراسة أو القريب، لتكون المحصلة حسّاً سقيماً ووجداناً معطوباً، ليصبح الحزن والفرح محكوماً باللوائح والتعليمات الرسمية.
يسقط جنود في معارك سيناء، فيجد الوجدان الخَرِب نفسه حائراً، متأرجحاً، بين من يقول شهداء، ومن يعتبرهم قتلى.. نحسبهم جميعا شهداء، حتى وإن كانوا في معركة مجنونة، هم أنفسهم لا يدركون من أشعلها، ولماذا تم الزج بهم فيها، وهل هي من أجل الوطن حقاً، أم من أجل نظام خانقٍ لقيمة المواطنة، ومبدّدٍ لكل معاني الانتماء المحترمة.
لم يكن هذا الانشطار الإنساني والأخلاقي قائماً في مصر قبل ذلك، حتى في أعتى مراحل الاحتدام السياسي، حتى جاء عبد الفتاح السيسي، ليصل إلى الحكم بعقلية وأدوات قرصان، ومن حوله فرق من مزيفي الوعي ومشوهي القيم، يقودون الجماهير المطحونة إلى اعتناق عقيدة التصفيق للأقوى، وإنْ كان قاتلاً، والهتاف للفائز، وإن كان مجرماً، لتنمحي الفواصل بين البطولة والجريمة المتقنة. وبالتالي، تضيع مسطرة القياس الأخلاقي، فيكافأ الجاني، ويُدان المجني عليه.
ومن أسفٍ، أن هذا الأمر انتقل إلى التعاطي مع مأساة النزيف اليومي لأرواح الجنود في سيناء، إذ تتجاور صورتان: أطفال وشباب وشيوخ من أهالي سيناء يقتلون، وتمزق جثثهم، ويلقون في الكهوف وعلى الطرقات.. وصورة أخرى لجنود وضباط يحصدهم الإرهاب يومياً، ليبدو المشهد ضبابياً ومعتماً، وينعكس على المشاهد/ المواطن العادي الذي يجد نفسه مشطوراً بين حزنين، حزن على الضحايا المدنيين وغضب من قاتليهم، وحزن آخر على العسكريين الذين كان غاضبا منهم، وهو يطالع جثث أطفال مستخرجة من تحت الرمال.
اخترع عبد الفتاح السيسي “الحرب على الإرهاب المحتمل” تبريراً وتسويغاً لإرهابه المتحقق ومجازره المعاشة ضد معارضي قرصنته على الحكم، وطلب تفويضاً بأن يقتل أكثر، في العمق وعلى الحدود، وتحدّث بيقين أنه قادر على أن يستأصل الإرهاب الذي استدعاه من جذوره، فرحّب به المعلمون الكبار. وهنا، استمرأ اللعبة، منطلقاً من هذا الارتباط العضوي بين بقائه في الحكم واستمرار “الحرب على الإرهاب” في سيناء، حتى خرجت اللعبة الخطرة عن السيطرة، وباتت تمثل وضعاً كارثياً يهدّد وجود الدولة نفسها، وليس أركان النظام.
هنا، نهضت كل عناصر الصدام بين المؤسسات والأجهزة، ليُزاح الستار عن حقيقةٍ مفجعة: مصر لم تعد لاعباً رئيسياً في تقرير مصيرها، لتتحول إلى رجل الإقليم المريض الذي تتنازعه قوى قديمة، وأخرى طامحة، وطامعة في ميراث الدور، فتتطاير المبادرات، وتنشط التحركات، ويُسمع، بوضوح، ضجيح تكسير الفخار بعضه بعضاً، لتصل إلى ما يشبه اليقين بأن عبد الفتاح السيسي صار الحاكم الذي لا يحكم، مجرد “فاترينة رئاسية” تورّطوا فيها، ثم اكتشفوا أنها ملغومة بالخطر على الجميع.
تأتي “حماس” الإرهابية إلى القاهرة، وتعود منها الصديقة والشقيقة، وتُقطع رؤوس كبيرة وتطير إلى مستودعات الحمولات الزائدة، وتبدو لوحة المفاتيح مهشّمة، والنظام كله في حالة ارتباك عنيفة، وتعود روح فايزة أبو النجا، وزيرة مبارك والمجلس العسكري ومستشارة السيسي وعقله السياسي، تخيم على المكان.
تعلن “المخابرات العامة” عن حضورها بقوافل طبية مجانية في قرى الصعيد، ويطير البط حزناً على ذبح توفيق عكاشة، ويسقط الدولار مشتعلاً فوق أسطح البنايات، ويلطم رجال السيسي في الإعلام، وينتحبون ضد “العالم كله” الذي يتآمر على السيسي، في محاولةٍ لإيقاف نزعات الكفر بالصنم المقدس، وانفضاض العاديين عن عبادته.
في هذه الأجواء، عادة، يظهر على الساحة تجار وسماسرة وعرّافون ودجالون، يبيعون “البديل” ويسرحون بالمبادرات، زاعمين أنهم وسطاء معتمدون، ووكلاء رسميون، بينما هم في الحقيقة يمارسون نوعاً من الاستثمار المبكر في مخلفات المعارك التي توشك على الاقتراب من النهاية.
المبادرات الحقيقية لم تأت بعد، لكنها في الطريق.