اشتهرت العرب بأخلاق وقيم، تميزوا بها بين الأمم، توارثتها الأجيال؛ جيلاً من بعد جيل، في جاهليتها، ومن بعد مجيء الإسلام؛ منها الدفاع عن المظلوم وأخذ الحق له من الظالم، وحلف الفضول خير شاهد، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه: ” لقد شهدت مع عُمومتي حِلفاً في دار عبد الله بن جُدعان، ما أحبّ أن لي به حُمر النعم “. وسببه أن رجلاً من زبيد ( بلد باليمن) قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل، ومنعه حقه فاستعدى عليه الزبيدي أشراف قريش، فلم يعينوه لمكانة العاص فيهم، فوقف عند الكعبة واستغاث بآل فهر وأهل المروءة، فقام الزبير بن عبد المطلب فقال: ما لهذا مترك، فاجتمعت بنو هاشم، وزهرة، وبنو تَيْم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان، فتعاقدوا وتحالفوا بالله ليكونُنّ يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يُرد إليه حقه، ثم مشوا إلى العاص بن وائل، فانتزعوا منه سلعة الزبيدي، فدفعوها إليه، وأبرموا هذا الحلف، الذي سمي بحلف الفضول.
ومن أخلاق العرب: حُرمة البيوت. وجاء القرآن ليُثبِّت هذه الحُرمة، آمراً المؤمنين بدخول البيوت من أبوابها، وعلمهم آداب الاستئذان. وعندما هَّم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، دبرت له قريش أول محاولة اغتيال للرسالة ولصاحبها، حين اختاروا من كل قبيلة فتىً جلداً مسلحاً. وعند التنفيذ وقفوا ليلتهم كاملة ينتظرونه يخرج، وهم يراقبون, دون أن يُراودهم أدنى تفكير في اقتحام البيت، أو تسور الدار، ورأوا أن حرمتها وحرمة نسائها يمنعانهما من الاقتحام، أو كسر الباب.
ولما تنفس الصبح، وخاب مسعاهم، وعرفوا بأن علياً هو من كان في البيت، لم يدخلوه كذلك، ولم يُعملوا فيه قوتهم بكسر أثاثه، وتدمير ممتلكاته، أو حرقه، وترويع ساكنيه وصغارهم, بل هرولوا لتعقبه صلى الله عليه وسلم والبحث عنه عند من ظنوا أنه موجود معه؛ رفيقه الصديق. ولما أتوا دار أبى بكر لم يقتحموا البيت، ولم يعيثوا فيه فساداً وانتقاماً, بل طرقوا الباب، فخرجت أسماء، فسألها أبو جهل عن أبيها، فأنكرت مكانه، فتهور؛ فلطمها لطمة على وجهها طرحت منه قرطها، ولما هدأ روعه، فكر في شناعة ما اقترفت يداه فندم وأحس بحرج شديد وطلب من رفقته أن يكتموا عليه فعلته حتي لا تُعيره العرب.
وفي فتح مكة, راعى النبي صلى الله عليه وسلم حرمة البيوت وجعلها أمناً وأماناً لمن أخرجوه وأصحابه من ديارهم بغير حق، واستولوا على أموالهم ودورهم، وحاربوه وقاتلوه، ولم يدخلوا في دينه، ومع ذلك جعل البيتَ حرماً لا يُنتهك ولا يُستحل, فقال: ” من دخل دار أبي سفيان فهو آمن”. وهل تسع دار أبي سفيان كل هؤلاء مع كثرتهم؟! فقال:” ومن دخل داره فهو آمن”. ومن لا دار له فالبيت الحرام له أمان.
وظلت للبيوت حُرمتها، في كل عصر ومصر، يحفظها الناس حتى الأشقياء منهم. وكان أهل مصر قديماً يسمونهم (الفتوات)، وأسماهم نجيب محفوظ في رواياته “الحرافيش”. وكان أهل العراق أوائل العهد العثماني يُسمونهم (الأشقياء). وقد ذكرهم الدكتورعلي الوردي في كتابه ” لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث” فقال: (الشقي) من الناحية القانونية يُعتبر مجرماً، غير أنه من الناحية الاجتماعية يُعد من الأبطال الذين تفتخر بهم المحلة ويشار إليهم بالبنان. إنه كان في الغالب يمتهن اللصوصية والسطو على البيوت وفرض (الخاوة) أي – الإتاوة- على الأغنياء، ولكنه في الوقت نفسه لا يخالف القيم المحلية السائدة، فهو في محلته شهم مغوار يحمي جاره ويحافظ على حق( الزاد والملح) ويراعي تقاليد العصبية والدخالة والنجدة وما أشبه”. ومن قصص الأشقياء أن ” جماعة من الأشقياء سطوا ذات ليلة على بيت وأخذوا يجمعون منه الأواني وبعض الأثاث، فأحست بهم أم البيت وهي خائفة فأيقظت ولدها قائلة له: ” قم ساعد أخوالك”، والظاهر أنها قالت ذلك على سبيل التهكم، ولكن اللصوص أخذوا قولها مأخذ الجد وتركوا السرقة من بيتها إذ أن المرأة صارت بمثابة (أخت) لهم، وليس من الجائز في عُرفهم أن ينهب الرجل أخته وأبناء أخته، إنه يجب أن يحميهم لا أن ينهبهم!.
وقصة حسن كبريت التي أوردها الوردي فيها العبرة، يقول:” كان هذا الرجل من أشقياء الكاظمية، عاش في أواخر العهد العثماني وبداية الاحتلال البريطاني، وكان سفاكاً للدماء، وكان يتلذذ بالقتل، وكان يشترك مع (المجاهدين) في واقعة الشعيبة أثناء الحرب العالمية الأولى، وكان لا يكتفي بقتل جنود الأعداء بل كان يقطع رؤوسهم. وذهب ذات ليلة مع رفاق له من أشقياء بغداد للسطوعلى بيت أحد الأغنياء، ولما أتم السرقة عاد إلى الكاظمية عن طريق مقبرة الشيخ معروف، وكانت بعيدة عن العمران، فسمع من بين القبور صوت فتاة تستغيث، وأدرك أن رجلاً فظاً كان يريد اغتصابها، وهي عذراء، غير مكترث لتوسلاتها، فأسرع إلى الرجل من ورائه وأغمد الخنجر في خصره فقتله فوراً وأخذ الفتاة إلى أهلها سالمة”.
حين أقارن بين هؤلاء وبين جيش الانقلاب وشرطته في مصر أتعجب. كيف غير العسكر هذه الأخلاق؟ وكيف غرس في نفوس جنده هذه الوحشية وهذا الإجرام؟ وكيف انعدمت الضمائر وماتت القلوب؟ كيف صنع جنوداً من بنى جلدتنا، يدينون بديننا، ويعبدون ربنا، ويعيشون بيننا، ثم حَّولهم هكذا إلي قطعان وحشية لا ترى ولا تسمع إلا صوت الراعي وهو يضربها ويصرخ فيها؟!
حين أتذكر الجنود وهم ينهالون على فتاة في ميدان التحرير بالضرب، ويجردونها من ملابسها عياناً بياناً، وأقرأ قصة حسن كبريت، أو خوف أبي جهل من الفضيحة، أحتار في وصفهم! كيف جردهم العسكر من شهامتهم ومروءتهم ورجولتهم؟ أي بشر هؤلاء؟ وأي انسان هذا الذي يستقوي بجنوده وآلاته وجبروته على فتيات صغيرات؛ يركل إحداهن برجله، ويعصر أخرى بيده، ويغتصب ثالثة في مُدرعته؟!
إذا كان الأشقياء الذين سمعوا المرأة تقول لابنها ساعد أخوالك، قد استحوا منها وتركوا البيت دون سرقته, فلماذا لا يستحي الذين دخلوا على النساء والأطفال وهم يعلمون أن عائلهم محبوس في سجنهم، فأشعلوا النيران في بيتهم، حتى أكلت أثاثه، والأطفال يصرخون، والجنود غير مكترثين لتوسلاتهم؟!
أي قلوب هذه التي تحرق المعتصمين أحياءً، وتُشعل النار في بيوت الله، وتدهس جثث الموتى بآلياتها الثقيلة في رابعة والنهضة ؟ ومن أي طينة هؤلاء الذين يعتقلون الفتيات، ويحبسون النساء العجائز دون جريرة أو ذنب؟
يقول الكواكبي عن هؤلاء:” الاستبداد يتصرف في أكثر الأميال الطبيعية، والأخلاق الحسنة، فيُضعفها أو يُفسدها أو يمحوها.. ويجعل التابع له حاقداً على قومه، وفاقداً حب وطنه، وضعيف الحب لعائلته، ومختل الثقة في صداقة أحبابه، وحريصاً على حياته الحيوانية وإن كانت تعيسة. الاستبداد يسلب الراحة الفكرية فيُضني الأجسام، حتى يُعدموا التمييز بين الخير والشر، ويستولى على العقول الضعيفة فيفسدها كما يريد، ويتغلب على تلك الأذهان الضئيلة فيُشوش فيها الحقائق بل البديهيات كما يهوي، ويقوم على قلب الحقائق. المستبد إنسان مستعد بالطبع للشر”.
ولكن لن ينفعهم أنهم مُغفلون، لأن “فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ”.