محمد عبد الرحمن صادق

الأمة ودورها في مقاومة الظلم والظالمين ( 4)

هل للظالم من توبة؟

التوبة هي الرجوع إلى الله تعالى من المعاصي والآثام إلى الطاعة، وعرَّفها الإمام الغزالي في الإحياء بأنها: ” العلم بعظمة الذنوب، والندم والعزم على الترك في الحال والاستقبال والتلافي للماضي” . وقال ابن القيم في مدارج السالكين: ” التوبة في كلام الله ورسوله كما تتضمن الإقلاع عن الذنب في الحال، والندم عليه في الماضي، والعزم على عدم العود في المستقبل، تتضمن أيضًا العزم على فعل المأمور والتزامه، فحقيقة التوبة الرجوعُ إلى الله بالتزام فعل ما يحب وترك ما يكره، ولهذا علّق سبحانه وتعالى الفلاح المطلق على التوبة حيث قال : ” وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ” (النور 31 ) .

– وصح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: ” إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم ” ( رواه البخاري ومسلم) .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ” كلُ المسلم على المسلم حرامٌ، دمه وعرضه وماله ” ( رواه الترمذي وابن ماجة، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي) .

– وثبت في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ” يُغفر للشهيد كل ذنب إلا الدَّين ” (رواه مسلم) .

– وقال ابن كثير في تفسيره: ” حقوق الآدميين وهي لا تسقط بالتوبة، ولا فرق بين المقتول والمسروق منه، والمغصوب منه والمقذوف وسائر حقوق الآدميين، فإن الإجماع مُنعقدٌ على أنها لا تسقط بالتوبة، ولا بد من أدائها إليهم في صحة التوبة، فإن تعذر ذلك فلا بد من الطلابة يوم القيامة، لكن لا يلزم من وقوع الطلابة وقوع المجازاة، وقد يكون للقاتل أعمالٌ صالحةٌ تصرف إلى المقتول أو بعضها، ثم يَفضلُ له أجرٌ يدخل به الجنة، أو يعوض اللهُ المقتولَ من فضله بما يشاء، من قصور الجنة ونعيمها، ورفع درجته فيها ونحو ذلك”.

وقال القرطبي في تفسيره: ” فإن كان الذنب من مظالم العباد فلا تصح التوبة منه إلا بردِّه إلى صاحبه والخروج عنه – عينًا كان أو غيره – إن كان قادرًا عليه، فإن لم يكن قادرًا فالعزم أن يؤديه إذا قدر في أعجل وقت وأسرعه” .

وقال النووي في روضة الطالبين: ” وإن كان حقًا للعباد كالقصاص وحد القذف فيأتي المستحقَ ويُمكنه من الاستيفاء، فإن لم يعلم المستحق وجب في القصاص أن يُعلمه فيقول أنا الذي قتلت أباك ولزمني القصاص، فإن شئت فاقتص وإن شئت فاعف ” .

وبناءً على ما سبق قرر أهل العلم أن حقوق العباد لا تسقط بالتوبة، وكذلك لا تسقط بالشهادة في سبيل الله عز وجل، قال الإمام النووي: ” وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ” إلا الدَّين” ففيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين، وأن الجهاد والشهادة وغيرهما من أعمال البر لا يكفر حقوق الآدميين، وإنما يكفر حقوق الله تعالى” ( شرح صحيح مسلم للنووي).

هل يجوز الفرح بهلاك الظالمين؟

 كثير من الناس يعتبرون أن الفرح بهلاك ظالم نوعاً من الشماتة وأن الميت إنما تجوز عليه الرحمة ولا يجوز أن نذكره بسوء أو نشمت به أو نفرح لموته مهما كانت أفعاله في الدنيا ويحتجون في ذلك بحديث ” اذكروا محاسن موتاكم، وكفوا عن مساويهم ” وهذا الحديث قال عنه أبو عيسى الترمذي (حديث غريب) وقال عنه الألباني (حديث ضعيف) .

والحقيقة أن هناك خيطا رفيعا بين الشماتة في المسلم والفرح بهلاك ظالم أو طاغية أو فاسق أو مُتجبِّر، فلقد نُهينا عن الشماتة وأمرنا بالاستعاذة منها ولكننا لم نُنهَ عن الفرح بهلاك ظالم أو طاغية أو فاسق أو مُتجبِّر. قال تعالى: ” فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ” ( الأعراف 150 ) . روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” تَعَوَّذُوا بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء” . وقيل لأيوب عليه السلام: أي شيء من بلائك كان أشد عليك قال: ” شماتة الأعداء”. وقال الكلبي: ” لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم شمت به نساء كندة وحضرموت وخضبن أيديهن وأظهرن السرور لموته         صلى الله عليه وسلم وضربن بالدف”.  قال عبد الله بن أبي عتبة: ” كل المصائب قد تمر على الفتى فتهون غير شماتة الأعداء” .

مما تقدم نفهم أن لا شماتة في موت عبد من عباد الله الذين يرتكبون الحسنات والسيئات مثل باقي البشر، أما الطغاة والمتجبرون، الذين ملأوا الأرضَ ظلمًا وأذلّوا عباد الله واستباحوهم وجعلوا أيامهم على الأرض شقاءً وكدحاً، ونال أذاهم القاصي والداني، فالفرح في موتهم إنما هو في حقيقته تقرّب إلى الله تعالى بالاعتراف بقدرته جل شأنه على تحقيق وعِيْده بالقصاص من الظالمين.

وأقول لمن يعترضون على إظهار الشماتة بالظالمين: أين أنتم من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وحال سلفنا الصالح من الفرح بهلاك الظالمين بل السجود لله شكراً على هلاكهم؟ عن أبي قتادة بن ربعي الأنصاري قال: مُر على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة فقال: مُستريح ومُستراح منه. فقالوا: يا رسول ما المستراح وما المستراح منه؟ قال : ” إن العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله تعالى، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب” ( رواه البخاري) . في هذا الحديث بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم  أن الفاجر حين يموت يكفي العباد شره ويريحهم من فجوره وغطرسته، بل حتى الشجر والدواب يستريحون منه. وفيه عظيم دلالة على أن هذه الراحة نعمة من نعم الله التي لابد من شكرها وأول أبواب شكرها: الفرح بها .

عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لما أمر النبي يوم بدر بأولئك الرَّهْط فأُلقُوا في الطوى، عتبة وأبو جهل وأصحابه، وقف عليهم فقال: ” جزاكم الله شرًّا من قومِ نبيٍّ ما كان أسوأ الطَّرْد ِ، وأشد التكذيب” ، قالوا: يا رسول الله، كيف تُكلِّم قومًا جيَّفُوا، فقال: ” ما أنتم بأفْهَم لقولي منهم” .

ويدلل فعل السلف على هذا المعنى بسجود علي رضي الله عنه لله شكراً لمقتل ” المخدَّج ” الخارجي لما رآه في القتلى في محاربته له.

يقول الشيخ محمد صالح المنجد: ” الفرح بمهلك أعداء الإسلام وأهل البدع المغلظة وأهل المجاهرة بالفجور أمر مشروع، وهو من نِعَم الله على عباده وعلى الشجر والدواب، بل إن أهل السنَّة ليفرحون بمرض أولئك وسجنهم وما يحل بهم من مصائب” .

قال بدر الدين العيني رحمه الله: فإن قيل: كيف يجوز ذكر شر الموتى مع ورود الحديث الصحيح عن زيد بن أرقم في النهي عن سب الموتى وذكرهم إلا بخير؟ وأجيب: ” بأن النهي عن سب الأموات غير المنافق والكافر والمجاهر بالفسق أو بالبدعة، فإن هؤلاء لا يحرُم ذكرُهم بالشر للحذر من طريقهم ومن الاقتداء بهم “.

روى ابن سعد في طبقاته قال: أخبرنا عبد الحميد بن عبد الرحمن الحِماني، عن أبي حنيفة عن حماد قال: ” بشرت إبراهيم بموت الحجاج، فسجد، ورأيته يبكي من الفرح”. ولهذا شُرع لنا سجود الشكر عند تجدد النعم واندفاع النقم. أفلا نفرح بنعم الله؟ أفلا نشكر الله؟ أفلا نغيظ بفرحنا أعداء الله؟ أفلا نتعبد لله تعالى بهذا الفرح؟ ألم يقل الله تعالى : ” وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏” ( الروم 4- 5 ).

هل يجوز الدعاء على الظالمين؟

 من يتتبع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أن لا حرج في الدعاء على الظالم بعينه أو في الجملة، لما ثبت من دعائه صلى الله عليه وسلم على الذين غرَّرُوا بأصحابه عند بئر معونة من قبائل رعل وذكوان وبني لحيان وعصية، فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم دعا عليهم ثلاثين صباحاً ( والقصة في صحيح البخاري) ، كما صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو على مُضر .   وفي القرآن الكريم عن موسى عليه السلام: ” رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ” ( يونس 88) والأدلة على جواز الدعاء على الظالم كثيرة جداً.

اللهمّ عليك بمن ظلمنا، اللهمّ خيّب أمله، وأزل ظلمه، واجعل شغله في بدنه، ولا تفكّه من حزنه، وصيّر كيده في ضلال، وأمره إلى زوال، ونعمته إلى انتقال، وسلطانه في اضمحلال، وأمِتْه بغيظه إذا أمتّه، وأبقه لحزنه إن أبقيته، وقنا شرّ سطوته وعداوته، فإنّك أشدّ بأساً وأشدّ تنكيلاً. اللهم إنّ الظالم جمع كل قوّته وطغيانه، وإنا جمعنا له ما استطعنا من الدّعاء، يا ربّ فاستجب لدعوة المظلومين وانصرنا فإنّك يا كريم قلت لدعوة المظلوم: بعزّتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

شاهد أيضاً

د علي محمد الصلابي يكتب :ليلة النصف من شعبان.. أحكام وفضائل

حرص السلف الصالح أشد الحرص على الأوقات، خصوصا فيها الأعمال التي حباها الله تعالى بمزيد …