الاستثمار الذكي لشهر رمضان

مع بزوغ نفحات شهر رمضان المبارك، وأثناء شهر شعبان، يبدأ كثير من المسلمين في التفكير لاستقبال الشهر الكريم والتجهيز له، وقد اختلفت طرائقهم  في ذلك. فمنهم: من يفكر في الأمور المادية من الطعام والشراب…، كيف ستكون هذا العام على موائد الفطور والسحور؟ ومنهم من يفكر في الصيام وبرنامج الطاعات، وكيف ستُؤدى في هذا الشهر الكريم؟ ومنهم من يجمع بين الأمرين معاً في الإعداد والترتيب لشهر رمضان. ولاشك أن التخطيط المسبق لنيل نفحات هذا الشهر الكريم والفوز بموعودات الله فيه يُعد من دأب الصالحين وتنافس الصادقين، وهو أيضا دليل على تقدير منزلة هذا الشهر في قلوب المسلمين وعقولهم.

ولكن المتتبع لأحوال العابدين السابقين، يجدهم أكثر ذكاءً في الاستفادة من رحمات هذا الشهر، وأعمق فهماً لحقيقة العبادة ومقاصدها، وبخاصة في مواسم النفحات الربانية؛ فقد كانوا يفكرون في كيفية نيل أعلى المقامات وأعظم المغانم في شهر رمضان عن طريق ما يُعرف بمعادلة (الاستثمار الذكي) التي تُبنى على قاعدتين هامتين:

أولاً- قاعدة (النماء المستمر والربح المتزايد)، وذلك عن طريق المبادرة في شهر شعبان بالأداء الفعلي -وليس بالتخطيط والأمنيات- للعبادات التي ينوون أداءها في رمضان، مثل: سُنة الإكثار من الصيام في شعبان، اتباعًا لهدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي “ما رئي أكثر صيامًا في شهر منه في شعبان” (رواه البخاري).

وقراءة القرآن الكريم وختمه -على الأقل- مرة قبل دخول شهر رمضان، حتى بات شهر شعبان يُعرف بشهر “القرّاء” لكثرة قراءة القرآن وختمه فيه. وكان كثير منهم يخرج زكاة المال المفروضة في هذا الشهر أيضاً، ليكون شهر رمضان فرصة للصدقات التطوعية، والإكثار من دعوات السحر أن يبلغهم الله رمضان ويعينهم فيه على نيل الرضوان… وغير ذلك من أفعال البر. أتدري لماذا دأب الصالحون على فعل ذلك في شهر شعبان؟ حتى إذا جاء رمضان تخطوا تحديات البدء،  واجتازوا صعوبة كسر عادات اليوم والليلة، وكانوا أسرع مراوضة للنفوس؛ مما يعينهم على الوصول إلى منزلة الجد والاجتهاد مع أول ليلة من ليالي الشهر الكريم، فتجدهم يشمرون للتنافس في الطاعات والارتقاء إلى أعلى المقامات بمجرد التأكد من رؤية هلال الشهر الكريم، ولعلّ من أهم دوافعهم في ذلك ما هو معروف في فقه الصالحين أن الحسنة تَتْبعها الحسنات وتدفع إلى مزيد من الطاعات، وأن تعظيم شعائر الله والتعرض لنفحاته بنية خالصة ومجاهدة صادقة يعين على فتح الأبواب ونيل أعلى الدرجات. جاء في الحديث: “أتاكم رمضان شهر بركة، يغشاكم الله فيه فينزل الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء، ويباهي بكم ملائكته، وينظر فيه إلى تنافسكم في الخير، فأروا الله من أنفسكم خيراً، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله عز وجل” (رواه الطبراني).

 ثانياً- قاعدة(تجنب أسباب النقص وعوامل الخسران)، وقد كانوا يحققون ذلك بإزالة معوقات نيل شرف الطاعة والفوز بالمغفرة والعتق من النار في رمضان، وذلك عن طريق الإسراع في معالجة ثلاثة أمور: أولها- (الغفلة)، التي بيّن النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه أنه تكثر في شهر شعبان.(رواه البخاري) وهي في معناه العام: انشغال القلب عن واجبات الزمان والمكان بسبب الانغماس في المتع والشهوات المادية عن النفحات الربانية. ولمعالجة هذه الغفلة يجب أن يبادر الفرد من خلال نفسه وأسرته وكل من يحبهم بمثل الاستعدادات الآتية:  

-(الاستعداد  العاطفي) وذلك بفرحة القلب الغامرة  وسعادة النفس الفيّاضة لمقدم شهر الفضل والرحمات.

-(الاستعداد الروحاني) بتخلية القلب من الشوائب ومحبطات الأعمال، وتحليته بإخلاص النية لله تعالى وصفاء الأرواح.

-(الاستعداد العقلي) بمراجعة أحكام الصيام ودراسة ما يتعلق بهذا الشهر من صحيح العبادات والآداب.

-(الاستعداد المجتمعي)  بنشر الخيرات والتذكير بموسم الطاعات، وإيقاظ الغافلين وإرشاد التائهين إلى التعرض لنفحات الله.

الأمر الثاني الذين كانوا يبادرون بمعالجته  قبل رمضان: (المعاصي والذنوب)، فقد سأل رجل الحسن البصري وقال: يا أبا سعيد إني أبيت معافى، وأحب قيام الليل، وأعد طهوري، فما بالي لا أقوم؟ قال: ذنوبك قيدتك “أي منعتك من القيام”؛ ولذا كانوا يكثرون من التوبة والاستغفار في شهر شعبان، حتى إذا جاء رمضان كانت القلوب أوعيةً نقيةً لاستقبال الرحمات والغفران من الله.

الأمر الثالث: (الشحناء والقطيعة والتباغض بين الأهل والأصدقاء)، فهذه من أخطر الأشياء التي تحول بين العبد وبين ثواب الله ونيل مغفرته، جاء في الحديث: “تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا”. رواه مسلم.

ما أحوج قلوب المشتاقين لبركات شهر رمضان في هذا الزمان أن يتعلموا ذكاء الاستثمار الحقيقي لتزكية القلوب والارتقاء بالنفوس للفوز بالجنة والنجاة من النار. فكما يفكر الإنسان ويبدع في تحصيل أعلى الاستثمارات في جوانب الحياة المادية، فعليه أن يستخدم قدراته وذكاءه للوصول إلى أعلى الاستثمارات وأنفعها في الدنيا والآخرة. يقول تعالى: “يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ” (الشعراء،89،88 )، وبخاصة في هذا الزمان الذي طغت فيه المادية على نصيب الأرواح، وانشغلت فيه النفس بزخارف الحياة عن حقيقة الحياة. جاء في كلام الواعظين: “رمضان سوق قام ثم انفض، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر”.

شاهد أيضاً

وفي الصوم زاد.. بقلم: الأستاذ مصطفى مشهور

طريق الدعوة كانت حياته كلها وقفًا عليه.. سار فيه منذ ريعان شبابه حتى مماته، وأخذ …