العمل الصالح.. تجرد وتضحية

العمل الصالح في حقيقته تجرد وتضحية, لأنه انتصار علي ما تحبه النفس من حب الراحة والدعة والكسل, ومن ثمّ فهو حركةٌ, وهمةٌ ونهوضٌ لما هو مطلوب .

وتعظم قيمة العمل الصالح كلما تجاوز الأثرة والأنانية, إلى التجرد والتضحية, من أجل سائر الخلق وعامة الناس.

وما تنعم به البشرية اليوم من إمكانات, وتقنية اختصرت الأزمنة وقربت الأمكنة, وساهمت في إسعاد الإنسان ورفاهيته, وتَمتّعِهِ بحياة مادية عالية, ماهو إلا من جهد أناس كرّسوا حياتهم, وأفنوا أعمارهم في العمل والإبداع.

ولا عجب, إذا كان من خير الناس ومن أحبهم إلي الله عز وجل أنفعهم للناس, وكان من أحب الأعمال إلي الله: سرور تدخله على مسلم, أو تكشف عنه كربة, أو تقضي عنه دينا, أو تطرد عنه جوعا, أو تمشي في قضاء حاجته .. وكل ذلك وغيره ثابت في أحاديث نبوية شريفة.

إن من أكبر سوء الفهم, وأكثر المفاهيم المغلوطة, قصر العمل الصالح على عبادات فردية؛ هي – على ضرورتها وشدة أهميتها – لا تنفع إلا صاحبها – أو على شؤون دينية بحتة دون شؤون الدنيا.

فالعمل الصالح – علي نحو ما ذهب الشيخ الغزالي رحمه الله – : (تصنعه فأس الفلاح, وإبرة الخياط, وقلم الكاتب, ومشرط الطبيب, وقارورة الصيدلي, ويصنعه الغواص في بحره, والطيار في جوه, والباحث في معمله, والمحاسب في دفتره, يصنعه المسلم صاحب الرسالة وهو يباشر كل شيء, ويجعل منه أداة لنصرة ربه وإعلاء كلمته) .

إن العمل الصالح يستوعب كل ما يعود على البشرية بالصالح العام في الدنيا والآخرة, وتزداد أهميته, وتعظم قيمته, بقدر ما يتعدّى نفعه, ويعمّ خيره.

إن ما يحدث اليوم في بعض وسائل الإعلام من صخب ومراء, وتبادل الاتهامات بلغة هابطة تصل إلي حد التسفل والإسفاف, وما يحدث بين بعض القوى السياسية من مشاحنات, وجدل دون عمل, وانشغال باللغو عن البناء, ومحاولة إقصاء بعضها لبعض, عملٌ غير صالح.

بل هو من المراء المذموم الذي لا يأتي بخير, ومن الضلال بعد الهدي .. كما جاء في الحديث الشريف : “عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلا أُوتُوا الْجَدَلَ، ثُمَّ قَرَأَ: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ) [الزخرف:58]” [صحيح سنن الترمذي 3-3253].

إن العمل الصالح يدعو أصحابه إلي الوحدة لا الفرقة, والحب لا البغض, والتآلف لا التنافر, والتكامل لا التضاد, والعمل لا الجدل, والبناء لا الهدم, والتعمير لا التدمير, والتقدم لا التأخر, والاحتواء لا الإقصاء، والستر والنصيحة لا التشهير والفضيحة, والتجرد والتضحية لا الأثرة والأنانية.

في ضوء هذا أفهم قول النبي – صلى الله عليه وسلم – : ( مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى الله مِنْ هَذِهِ اْلأيَّامِ الْعَشْرِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله. وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ ) [صحيح سنن الترمذي :757].

تأمل سر سمو النبي صلى الله عليه وسلم بالعمل الصالح – في الأيام الأول من شهر ذي الحجة – على سائر أنواع الجهاد في سبيل الله: إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء, ليتأكد لنا أن الأمة لا تُبني ولا تُسترد كرامتها, ولا يُعاد لها عزها وسيادتها, إلا إذا تجاوز أبناؤها الانتماءات الضيقة, والولاءات الخاصة, والمصالح الذاتية, وسموا بالعمل الصالح إلى مستوي التجرد والتضحية.

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)  [التوبة:105].

شاهد أيضاً

د علي محمد الصلابي يكتب :ليلة النصف من شعبان.. أحكام وفضائل

حرص السلف الصالح أشد الحرص على الأوقات، خصوصا فيها الأعمال التي حباها الله تعالى بمزيد …