يقينا بدأ فصل جديد من دراما حرب الأعصاب المتعلقة بمفاوضات سد النهضة الأثيوبي. ملامح المشهد الجديد كانت واضحة بالأمس حيث أدلى وزير الخارجية الأثيوبي لوكالة أسوشيتد برس بتصريحات غير مسئولة يمكن وصفها بأنها بمثابة اعلان حرب.
قال الرجل أن إثيوبيا سوف” تملء خزان السد الشهر القادم سواء باتفاق أو من غير اتفاق. إننا لن نستجدي مصر والسودان للاستفادة من مواردنا المائية”.
في المقابل قدمت مصر شكوى رسمية إلى مجلس الأمن الدولي باعتبار أن الأزمة باتت تشكل تهديدا للأمن والسلم الدولي وفقا للمادتين 34 و35 من الفصل السادس لميثاق الأمم المتحدة. ما معنى هذه الخطوة؟ نحن لازلنا نتبع الإجراءات السلمية في فض المنازعات الدولية ومنها المفاوضات والوساطة ثم الإحالة لمجلس الأمن .
يخول المجلس سلطة التحقيق في ما إذا كانت المشكلة فعلا تمثل تهديدا للسلم والأمن الدولي وفقا لنصوص الفصل السادس. وفي نهاية المطاف يستطيع المجلس وفقا لنصوص الفصل السابع أن يفرض السلام ويصدر قرارات ملزمة واجبة النفاذ.
ما الذي دفعنا للجوء لمجلس الأمن مرة أخرى؟ الإجابة هي وصول المفاوضات بين الأطراف الثلاثة إلى طريق مسدود Deadlock حيث يتمسك كل طرف بموقفه ويرفض التنازل قيد أنملة . هنا تسود مفاهيم المبارة الصفرية ومسألة الخطوط الحمر والمصالح الوطنية العليا وتصبح العملية التفاوضية محملة بأبعاد قيمة وأيديولوجية متنافسة. هذا ما حدث بالفعل بعد الجولة الأخيرة من المفاوضات التي انتهت وفقا للبيان المصري دون تقدم يذكر ، كما أنها عكست وفقا للبيان السوداني خلافا حول المفاهيم الأساسية وهو ما يعني أنها كانت عبثية أو بمثابة حوار طرشان. والأدهى أن أثيوبيا ضربت بكل التفاهمات السابقة عرض الحائط بما في ذلك اتفاق اعلان المبادئ عام 2015 وأعلنت أن خططها بشأن اختبار وتشغيل السد لن تتأثر. كل المؤشرات تفيد أننا أصبحنا أمام نموذج يسمى في أدبيات نظرية المباريات معضلة الدجاجة . Chicken Dilemma . إنه نموذج رياضي مفيد في فهم الحالة التي وصلنا إليها وطرق الخروج.
رغم هروبي من الرياضيات أثناء دراستي الثانوية والتحاقي بالقسم الأدبي إلا أنني استمتعت بدراسة الاحصاء على يد أستاذتنا الكبيرة نادية مكاري وأنا في مرحلتي الأولى بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة في أواخر السبعينيات من القرن الماضي ثم ازداد حبي أكثر عندما درست المادة بشكل تطبيقي في السنة الثانية على يد الرائع الدكتور زكي عزمي. أول مرة أسمع عن نظرية المباريات ومعضلة السجين ولعبة الدجاجة كأدوات تحليلية. فما هي حكاية معضلة الدجاجة وكيف نستفيد منها في تسوية أزمة سد النهضة؟ حاول كثير من الدارسين ومراكز صنع القرار تطبيق أحد استراتيجيات نظرية المباريات وهي معضلة الدجاجة Chicken dilemma (أحيانا تسمى الصقر والحمامة )على أزمة مياه النيل وتحديدا سد النهضة . فهل وصلنا فعلا إلى السيناريو الأسوأ في هذه المباراة.
للتبسيط المفيد تخيل معي في معركة تثير الأعصاب ،توجد سيارتان مسرعتان تسيران باتجاه بعضهما البعض بشكل عكسي على نفس الطريق. إذا لم تنحرف أحداهما ، فسوف يتحطمان. كيف يمكن تحقيق التوازن في هذه المباراة؟ أي كيف يستجيب الفاعلون بعقلانية لمثل هذا السيناريو؟ مباراة الدجاج (الاسم الذي أطلقه برتراند راسل) تعد مثالا لنموذج حافة الهاوية. اللاعبان يضعان سيارتيهما في مسار تصادم. من الذي سوف ينحرف عن الطريق أولاً (أي يساوم ، أو يستسلم) ويغادر الساحة؟ أم أنهما يسيران في نفس لاتجاه ويصطدمان أو الدخول في صراع نهائي أو حتى حرب؟
تأمل معي قليلا لدينا أربعة احتمالات :
الاحتمال الأول : يستمر الطرف الأول في قيادة سيارته مسرعا بينما ينحرف الطرف الثاني بسيارته عن الطريق خشية الاصطدام. في هذه الحالة يفوز الأول ويخسر الثاني ( الدجاجة هنا دليل على الجبن).
الاحتمال الثاني: عكس الأول حيث يستمر الطرف الثاني في القيادة مسرعا بينما ينحرف الطرف الأول عن الطريق (الدجاجة) خشية الاصطدام. الطرف الثاني يفوز بينما يخسر الأول .
الاحتمال الثالث: هو الحل العقلاني الأمثل حيث يقرر الطرفان الانحراف عن الطريق وتجنب الاصطدام وبالتالي يبقيان على قيد الحياة على الأقل .
الاحتمال الرابع : ويمثل السيناريو الأسوأ حيث يقرر الطرفان المضي قدما في القيادة بسرعة حتي يصطدمان ببعضهما البعض ويتحطمان. تلك هي الحالة التي يخسر فيها الجميع. كانت أزمة الصواريخ الكوبية مثالاً واضحا على معضلة الدجاجة. تبنت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في البداية مواقف صارمة ولكن في النهاية كان على الاتحاد السوفييتي الرضوخ والاستسلام.
ما هو التصرف العقلاني المطلوب لتجنب الوصول إلى السيناريو الأسوأ في هذه المعضلة؟
أولا :النظر إلى أزمة سد النهضة باعتبارها مشكلة سياسية تتجاوز بكثير أبعادها الفنية وهو ما يعني ضرورة توافر الإرادة السياسية والقدرة على الاعتراف بمخاوف الأطراف الأخرى. وربما يمثل الوسطاء فرصة مهمة للتقريب بين الأراء والتوصل إلى توافقات مرضية للجميع . الموقف الأمريكي واضح وعبر عنه مجلس الأمن القومي برفض التصرف الأثيوبي الأحادي قبل ملء خزان السد . كما أن البنك الدولي الذي كان طرفا في مفاوضات واشنطن ربط برنامج التحرير الاقتصادي في أثيوبيا بمفاوضات سد النهضة.
ثانيا : لقد وافقت مصر والسودان من خلال اعلان المبادئ عام 2015 على حق اثيوبيا في الاستفادة بمواردها المائية من أجل انتاج الكهرباء وعليه يتعين على أديس أبابا أن تدرك أن نهر النيل هو شريان حياة المصريين وأن المساس به هو لعب بالنار.
ثالثا: الاعتراف بأن نهر النيل نهر دولي وليس نهرا أثيوبيا وعليه فإن هناك نظام قانوني حاكم ولا يجوز تفسير ذلك وفقا للهوى . لقد كانت أثيوبيا في عهد منليك دولة مستقلة عندما تم توقيع اتفاقية مياه النيل عام 1902 وقد اعترفت أثيوبيا الحالية بمثل هذه الاتفاقات عند ترسيم الحدود مع كل من ارتريا والسودان. وبالتالي يصبح ترديد ملكية النهر والسيادة الوطنية مجرد كلام اجوف لا يستقيم مع أبسط قواعد القانون الدولي.
رابعا : مصر لديها حقوق ثابتة ولن تفرط فيها وينبغي أن لا تقبل أي حلول جزئية تعيدنا إلى المربع الأول . فلا تراجع ولا استسلام.
الطريق للمستقبل
علينا الاعتراف باننا دولة تعاني من شح المياه. ففي الوقت الذي يواصل فيه عدد السكان الارتفاع بنحو 2 % سنويًا فإن احتياجاتنا من المياه تفوق بشكل كبير مصادرها المتاحة. ولا شك أن سد النهضة سواء توصلنا لاتفاق أو لم نتوصل سوف يمثل عبئا آخر. وسوف تصبح موارد النيل عموما بسبب التغيرات المناخية مصدرا للتوتر والتنافس بين دول الحوض. علينا أن نفكر في طرق جديدة لمنع الفاقد في مواردنا المائية المحدودة مثل إعادة النظر في التركيب المحصولي واستخدام التكنولوجيا ولاسيما الطاقة الشمسية لدعم المجتمعات الزراعية في مصر . وعلى أية حال سوف يكون العام القادم مليئا بالتحديات الجسام حيث أن السنة الأولى لملء الخزان بحاجة إلى 4.9 مليار متر مكعب لاختبار أول توربينين في السد وهي من الناحية الفنية غير مؤثرة على حصة مصر. سوف تتمسك مصر بحقها في التوصل لاتفاق شامل وملزم بما يحافظ على حقوقها المائية وفي نفس الوقت تعيد حساباتها وتتعلم من أخطاء الماضي وتنظر إلى المستقبل من خلال رؤى جديدة ومبتكرة لمواجهة التحديات على المدى المتوسط والبعيد. إننا بحاجة إلى ثورة في مفاهيم التفكير الاستراتيجي لمواكبة تحولات العصر الذي نعيشه وتقلبات موازين القوى من حولنا . وتلك هي المعضلة الحقيقية.