دروس من تجارب الإخوان الماضية (3)

الدرس الثالث: دفع الدولة للعودة لنموذجها الأصلي – حيث نشأت – أجدى من الصدام معها

لنموذج الدولة الحديثة سمتان أساسيتان تظهران في المجتمعات التي أفرزتها, ونفتقدهما في بلادنا:

السمة الأولى: أن الدولة تخضع للمرجعية العامة الغالبة على المجتمع .

السمة الثانية: أن الدولة تتخذ موقف الحياد – النسبي على الأقل –  بين التيارات والقوى الاجتماعيه التي يتبني كل منها برنامجا سياسيا يخضع هو الآخر للمرجعية العامة للمجتمع.

ومع افتقاد دولتنا الوطنية لهاتين السمتين فإنها تتمسك بقوة بسمتين أخريين من سمات الدولة الحديثة:

أولهما: احتكار موارد العنف بالمجتمع .

ثانيهما: التمتع بمشروعية استخدام القوة في مواجهة خصومها.

والإشكالية التي تواجهنا هنا أنه بينما يكفل هذا الاحتكار وتلك المشروعية تفوقا ساحقا للدولة أمام خصومها المحليين – في حالة الاعتماد على القوة المادية في حسم الخلافات – فإن السمتين التي تفتقدهما الدولة في بلادنا أي عدم حيدتها، وتمردها على الخضوع للمرجعية العامة الغالبة على المجتمع تجعل خصومتها مع الحركات الإسلامية فرضا واقعا لا مناص منه بغض النظر عن الطرف المهيمن على قيادة الدولة، بل إنه يصبح أقرب لأن يكون أداة في هذه المواجهة أكثر منه محركا لها.

 على أن الإشكالية أعمق من ذلك, فالدولة الحديثة في نموذجها الوافد هي – من حيث الأصل – نتاج التجربة الغربية بكل ما يعكسه ذلك من تحيزات لثقافة هذا الغرب وخبراته، وبكل ما يعنيه من مفارقة مع ثقافة مجتمعاتنا وخبراتها كذلك.

والحقيقه فإن الحركات الإسلامية التي عاشت ردحا من الزمن ترى في تمرد الدولة الحديثة على الخضوع للمرجعية العامة للمجتمع – وهو الإسلام – سببا لمشروعية استخدام هذه الحركات للقوة في مواجهتها – هي والأنظمه المتمترسة بها – أدركت أن موارد القوة المادية المحدودة المتاحة لها في المجتمعات القائمة لا تتكافئ مع القدرات الساحقة التي تملكها هذه الدولة في ذات المجتمعات، وهذه الفجوة بين القوتين كانت وستظل في اتساع بمضي السنين منذ وفد هذا النموذج للحكم على مجتمعاتنا؛ سواءٌ من حيث تعاظم قوة وسيطرة وتحكم الدولة، أو من حيث تآكل موارد القوة المادية التي يمكن أن تصل إليها التجمعات المدنية. ولعل هذا الجدل الداخلي كان – بجانب أسباب أخرى – وراء اتجاه جماعة الإخوان المسلمين عند عودتها لممارسة نشاطها إلى عدم الاستجابة لدواعي اعتبار الدولة الوطنية التي تعايشها خصما لمشروعها – رغم أنها لا تزال عمليا كذلك بمعنى من المعاني – وانحيازها للسعي لدفع هذه الدولة للالتزام بنموذجها الوافد من المجتمعات التي أفرزتها فيما يتعلق بالسمتين الغائبتين؛ أي خضوعها للمرجعية العامة للمجتمع، والالتزام بالحيادية – النسبية – بين تياراته في إطار هذه المرجعية.

 ومن البديهي أن نضج ورسوخ هذه النظرة للدولة يعني – بالدرجة الأولى – استبعاد التفكير في استخدام القوة تجاهها – وبالتبعية تجاه النظام الحاكم الذي يتترس بها – وهو ما بدا جليا في طرح قيادة الجماعة منذ سبعينات القرن الماضي من خلال البيانات الرسمية للجماعة ورسائل مرشديها وقيادييها   عن أن الخيار السلمي يمثل نهجا عقيديا لدى الجماعة كناية – في فهمنا – عن ثباته ورسوخه. والحقيقة فإن ما قامت به قيادة الجماعة هنا لم ينبني على ظهور نصوص شرعية كانت غائبة في مرحلة سابقة، ولكن على فهم واقع الدولة الحديثة بمنظور جديد يطمح لتصحيح دورها – تدريجيا – من خلال التركيز على انضاج عوامل التوافق، وتجنب دواعي الصدام, وهي في ذلك تخطو للأمام على الدرب الذي شقه الإمام البنا من قبل. تأمل نظرته التوافقية للنظام النيابي كنهج لإدارة الحكم في الدولة الحديثة ( ليس في قواعد النظام النيابي الأساسية ما يتنافي مع القواعد التي وضعها الإسلام لنظام الحكم، وهو بهذا ليس بعيدا عن النظام الإسلامي ولا غريبا عنه)[1].. وتأمل كذلك ذات النظرة للدستور المصري الصادر عام 1923 ، وانتبه لتناوله المتلطف للنقاط التي قد تكون محل اعتراض في هذا الدستور: (الدستور المصري بروحه وأهدافه العامة من حيث الشورى، وتقرير سلطة الأمة، وكفالة الحريات لا يتناقض مع القرآن ولا يصطدم بقواعده وتعاليمه، وبخاصة وقد نص فيه على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام, وإذا كان فيه من المواد ما يحتاج إلى تعديل ونضوج فقد نص الدستور نفسه على أن ذلك التعديل والنضوج من حق النواب بطريقة قانونية مرسومة )[2]

وفي هذا السياق لعله من المفيد أن نسجل هنا ملاحظة جديرة بإلالتفات, ففي مساهمة المستشار طارق البشري في المجلد الصادر عام 2007 بمناسبة مئوية الإمام البنا بعنوان ” قراءة في كتابات الأستاذ حسن البنا مؤسس الحركة الإسلامية الحديثة – قراءة في الفكر السياسي للحركة الإسلامية” أوضح أنه ( بعد قراءتي لأعمال الأستاذ البنا قراءة متصلة، وبعض كتابات من جاء بعده ممن يسير علي خطاه حاولت أن ألخص ما أظنه أطر النظر السياسي الاجتماعي الذي يصدر أو يمكن أن يصدر عن هذا الفكر … بمعنى أن هذا الذي أسطره في البنود التالية ليس كتابات الأستاذ البنا – رحمه الله – ذاته، وإنما هو قراءتي لهذه الكتابات)[3] . وقد كان من اللافت أنه بينما التزم البشري بعبارات البنا في كثير من المواضع فإنه قام بإعادة صياغة النادر منها، ومن ذلك عبارة البنا الشهيرة عن درجات القوة لتصبح ( إذا ابتغي المسلمون القوة لأمتهم امتثالا لنداء القرآن الكريم ” وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة” فإنهم يدركون أن اولى درجات القوة هي قوة العقيدة والإيمان، وتليها قوة الوحدة والارتباط، ثم بعدها قوة الساعد لبناء المجتمع الناهض، وقوة السلاح في يد الدولة للدفاع عن الأمة)[4]. ولعل أبرز ما أسفرت عنه إعادة الصياغة كما نراها أن السلاح إنما يكون في يد الدولة فقط  .. وبالطبع فلا وجه لعتاب الرجل فقد ذكر ابتداءً أن هذه الصياغة هي قراءته للكتابات وليس الكتابات ذاتها، ثم إنه لم يقصر الكتابات على الإمام البنا، ولكنه أضاف إليها ” كتابات من جاء بعده ممن يسير على خطاه “, وكأن المستشار البشري يرى أن إنضاج المعنى الذي بدأ به البنا على يد خلفائه من بعده، ووفق قراءتهم المتجددة للواقع المحيط بهم من خلال التجارب التي عاشوها قد انتهى بهم إلى اعتماد فكرة اقتصار حيازة السلاح على الدولة دون غيرها.

…………….

 [1]   ) حسن البنا –  رسالة مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي –  مجموعة رسائل الإامام البنا –  ص  659

[2]   ) حسن البنا  –  مجلة الإخوان المسلمون نصف الشهرية – 4 – 11 – 1944  –  من تراث الامام البنا  –  الجزء 9  –  ص  216

 [3]  ) مجلد الذكري المئوية للإمام البنا  – بحث المستشار طارق البشري  – ص 40

[4]   ) مجلد الذكري المئوية للإمام البنا  – بحث المستشار طارق البشري  – ص 41

شاهد أيضاً

بعد موقفهما تجاه ليبيا.. محاولات لبث الفتنة بين تركيا وتونس

منذ أن بدأ الجنرال الانقلابي خليفة حفتر محاولة احتلال طرابلس في إبريل الماضي، لم تتوقف …