د.أحمد جعفر يكتب: حقيقة الخلاف بين الإمارات والقرضاوي

تابعت كما تابع غيري جدلية “تويتة” عبدالله بن زايد, وزير خارجية الإمارات, عن رفضه فتوى قديمة للدكتور يوسف القرضاوي تجيز العمليات الاستشهادية في فلسطين وليس غيرها, وأعاد نشرها ابن زايد باعتبارها نموذجا للإرهاب والتطرف وربطها بالفتاوى السمحة للشيخ ابن باز رحمه الله. ما سأذكره هو للتاريخ وعلى استعداد كامل للرد عليه من منطلق وقائع ومعايشات وشواهد عشتها أثناء فترة عملى كمسؤول تحرير صفحة “دين ودنيا” اليومية بصحيفة “الاتحاد” الظبيانية في نهاية تسعينيات القرن الماضى وحتى عام ٢٠٠٣. “دين ودنيا” بدأت يومية؛ صفحة واحدة في الصحيفة الرسمية ثم بعدما نجحت بتناولها قضايا الإسلام بلغة عصرية تقرر أن تخصص لها صفحتان يوميا بملحق “دنيا الاتحاد”, وكان الدكتور القرضاوي خلال هذه الفترة يأتي أسبوعيا لأبوظبي من قطر لسببين، الأول كونه رئيس هيئة الرقابة الشرعية بمصرف أبوظبي الذي يدير معظم أموال ومحافظ المسؤولين الكبار، والسبب الثاني استضافة القرضاوي في حلقة تلفزيونية بقناة أبوظبي مساء ذات اليوم الذي يأتي فيه ثم يبيت ليلة واحدة يغادر بعدها إلى الدوحة, وفي هذا دلالة كبيرة على مكانة العلامة الشيخ القرضاوي في نفوس المسؤولين فضلا عن مكانته بين الناس. خلال هذه الفترة تم ترشيحه من قبل جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم في ثاني دورة لها بعدما كرمت في عامها الأول الشيخ الشعراوي “رحمه الله”, وقد فوجئت بإدارة التحرير التي كان يشرف عليها عبدالله بن زايد بوصفه وزيرا للإعلام ورئيسا لمجلس إدارة الجريدة بتكليفي للسفر للدوحة لمقابلة الشيخ القرضاوي في بيته وإبلاغه بخبر الجائزة وإجراء حوار مطول معه، وبالفعل رحب القرضاوي بالزيارة التي كانت يوم الخميس وأجريت معه الحوار في ذات اليوم ثم عكفت على صياغته وإعداده للنشر لأرسله للصحيفة من الفندق الذي نزلت فيه عصر يوم الجمعة ليخرج للناس مع خبر الاعلان عن الجائزة يوم السبت في مؤتمر صحفي, وتكون الصحيفة قد حققت سبقا صحفيا عن نظيراتها؛ “البيان” و”الخليج” وغيرهما. صحيفة “الاتحاد” نوهت عن الحوار السبق بخبر “فيتشر” من مضمون الحوار كان يحمل عنوان “زايد أحب قومه فأحبوه .. وعمل لخير شعبه فأطاعوه”. وكان وقع الحوار وماتضمنه من تساؤلات مصدر ترحيب تلقيت عنه جائزة مالية حينها..ثم بعد ذلك علمت من إدارة التحرير أن الشيخ زايد “الله يرحمه” يريد مقابلة الشيخ القرضاوي بمجرد وصوله للبلاد وترتيب ذلك مع رئيس الجائزة ابراهيم بوملحة الذي كان يشغل النائب العام بدبي, وحدث ما أراده الشيخ زايد واستقبله استقبالا يليق به كعالم لايشق له غبار، وهللت الصحف بهذه الجائزة وحسن اختيار اللجنة للرجل المناسب في الدورة الثانية. بعد انتهاء الحفل عرضتُ على إدارة التحرير استكتاب الدكتور يوسف القرضاوي بشكل دوري في ملحق “دين ودنيا” فطلبوا إمهالهم فرصة للاستفسار من المسؤولين! طبعا.. كنت أتوقع أن تأتي الموافقة، وبالفعل وافقوا وبدأ القرضاوي بالكتابة يوما بعد يوم. ولمن لا يعرف مدى نجاح صفحتي “دين ودنيا” أوضح أنها كانت أكثر الصفحات قراءة وتفاعلا من القراء, فقد ساهمت في زيادة نسبة التوزيع ثلاثمائة في المئة، وفي استطلاع للرأي أجرته الصحيفة, احتلت المرتبة الاولي في القراءة, لكن وفقا للتوجيهات الخفية رفضوا ذكر ذلك، كما أشاد بها إبراهيم نافع رئيس تحرير “الأهرام” الأسبق, في إحدى زياراته لابوظبي وقال إنه معجب بفكرتها وإنه ينوي عمل مثلها على صفحات “الأهرام”, وكان له ما أراد بشكل آخر عندما استكتب وخصص للدكتور زغلول النجار صفحة أسبوعية. خلال هذه الفترة كانت الأعمال الاستشهادية ضد الصهاينة في فلسطين المحتلة على أشدها, وما تمر بضعة أيام حتى تصل الأنباء عن عمليةٍ ما, توقع العشرات من قطعان المستوطنين، وانبرى علماء السلطان في كل بقعة يدينون هذه العمليات ويسمونها “انتحاريه” حتى جاءت فتوى القرضاوي وعدد من كبار العلماء وقطعوا بأنها عمليات استشهادية وليست انتحارية، وقد تناولت الجدلية بعنوان كبير احتل صفحة ملحق دنيا الاتحاد بالكامل بعنوان ” استشهاديون لا انتحاريون”، ولمن لا يعرف سياسات التحرير بالصحف الكبرى عليه أن يعرف أن غلافًا كهذا كان لابد أن يمر على دوائر وأجهزة قبل إقراره والسماح بنشره، وتكررت هذه الموضوعات بصيغ مختلفة عندما استضافت الصفحة علماءً أفذاذ ليأكدوا هذا المعنى ويتفقوا مع القرضاوي فيما ذهب إليه. حينها لم يكن التيار السلفي مرحبًا به عند السلطات في الإمارات وكانت لذلك شواهد كثيرة ليس هذا وقت ذكرها، ويكفي أن أقول إنهم استبعدوا من قبلي, محرر الملحق الديني, والمشرف على إذاعة القرآن الكريم لأنه من السلفيين وكان حريصا على نشر مقالات للحويني وابن باز وابن عثيمين وغيرهم من علماء السلف. وعندما جاءت أحداث سبتمبر الأسود في أمريكا وتواترت الأنباء عن مشاركة عدد من أبناء الإمارات المنضوين للقاعدة في هذه الفعلة النكراء, هبت رياح الغضب الإماراتي على المنافذ الدينية وجففت معظمها، فأغلقت صفحة “دين ودنيا” رغم اعتدالها, وجففت إذاعة القران الكريم من أبوظبي إلا من القرآن والأذان، وأغلقت مراكز تحفيظ القرآن واستُبعد عددٌ من الرموز الوطنية ذات التوجه الديني من وظائفهم واحيلوا للتقاعد, وغير ذلك مما لايسمح المجال بذكره الآن. لكن كان أبرز هذه الإجراءات منع الشيخ القرضاوي من دخول الإمارات ووقف برنامجه التلفزيوني, وما أحدثه ذلك من جدل صاحبه حملة صحفية وإعلامية من أقلام موالية للسلطة للنهش في جسد الشيخ وكأنه هو من أمر بتفجير البرجين. كل ذلك أحدث فراغا كبيرا في الساحة الإعلامية في الإمارات انتهزها رجال الصوفية من أمثال الحبيب الجفري لكنه لم يكن فقيهًا، وذات يوم كان الشيخ زايد يشاهد التلفاز فاستمع للشيخ الدكتور عبدالمعطي بيومي يرحمه الله يتحدث عن المرأه في التلفزيون المصري، فأعجب بكلامه فأمر بإحضاره. وقد تلقى مدير مكتب صحيفة الاتحاد بالقاهرة الزميل سيد عزالدين مكالمة من المسؤولين يريدون رقم هاتف الشيخ عبدالمعطي بيومي لزيارة الشيخ زايد، وعندما وصل وقابل الشيخ زايد حكى لي الدكتور عبدالمعطى ملخص ما أزعج الشيخ زايد من القرضاوي وسر الغضبة التي لحقت به. سر الغضبة كما حكاها لي د. بيومي تكمن ياسادة في أن الدكتور القرضاوي عندما تحدث في برنامج “الشريعة والحياة” على قناة الجزيرة, عقب الغزو الأمريكي لأفغانستان للبحث عن بن لادن ومن معه, وسقوط ضحايا أبرياء من المدنيين الباكستانيين والأفغان قال القرضاوي لماهر عبدالله الإعلامي الذي كان يجري الحوار: لابد للشعوب العربية أن تخرج في الشوارع للتعبير عن رأيها ضد الهجمة الأمريكية وقوات التحالف الغربي على الشعب الأفغاني الذي لم يستفق من الروس بعد. الشيخ زايد “رحمه الله” اعتبر ذلك تأليبًا من الشيخ القرضاوي للشعوب على الحكام العرب، والإمارات مجتمع يكتظ بالباكستانيين والأفغان ولو استجابوا لهذه الدعوة قد تكون لها تداعيات سلبية خطيرة على استقرار البلد, خاصة وأن أغلب هذه الفئة المتضررة من الاعتداء الأمريكي على شعبها يعملون في مجال التاكسي والزراعة والخدم. الذين ينتظرون الصيد في الماء العكر؛ من أجهزة ودوائر وأفراد, هبوا وقد سنوا سكاكينهم لذبح القرضاوي وتناوله بكل أمر مشين, خاصة بعدما ردته السلطات عند مطار أبوظبي, وعودته للدوحة حيث عقد مؤتمرًا صحفيا حول ما حدث, وتبعت ذلك تجاوزات تعامل معها الشيخ القرضاوي بالحكمة وأخبرني بأنه سيتعامل معها قضائيا, لكن من يومها لم تتوافر لدي معلومات عن مآلات الأمور. الإمارات أرادت أن تأتي ببديل آخر غير د. عبدالمعطي بيومي فاستضافت الدكتور زغلول النجار ليتحدث في الإعجاز العلمي واللغوي في القرآن, ونظمت له مساحة أسبوعية وفي إحدى الحلقات سأله المحاور عن إسرائيل كدولة لليهود والصهاينة وكيفية التعامل معها في ضوء القرآن، فإذا بإجابة الدكتور زغلول النجار لا تعجب المسؤولين, فنال حظه من الغضب, وتوقف برنامجه ولم يعد يسمح له كذلك بدخول الإمارات رغم أن حاكم دبي كان يرسل له طائرة خاصة تقله من القاهرة لدبي للاستفسار أو إجراء مناظرات مع الغربيين في بعض القضايا الشائكة. أريد منكم بعد قراءة هذه الصفحة من التاريخ؛ والتي لم أستطع الإسهاب في تفاصيل أخرى في إطارها, أن تقارنوا بين المشهد الذي مضى عليه قرابة عقدين من الزمان, والمشهد الحالي فلربما تستنتجوا قناعات تستحق التسجيل.

شاهد أيضاً

وائل قنديل يكتب :هذا الحراك الجماهيري الشرير

يُطلق الاحتلال على كلِّ من يقاوم أو يدعم المقاومة لقب “المخرّب”، وبالتالي يعطي لنفسه الحقّ …