د: أكرم كساب يكتب :رسالة إلى القابع على كرسي

طالعت ما نشرته وسائل الإعلام من تصريحات لشوقي علام، والتي قال فيها: (إن ما يقرب من 50% من الجيلين الثاني والثالث من المسلمين في أوربا، ينتمون إلى تنظيم الدولة). وتوقعت في البداية أن هذا الكلام إما (مفبرك) أو (مجتزئ)، ثم صحت قائلا: وهل يستبعد ذلك عمن وقع على إعدام العشرات من الأبرياء؟!

    لقد كانت كلمات القابع على كرسي الإفتاء في مصر صورة من صور التضليل والتحريض، لا يجوز أن تخرج من عالم يتولى مثل هذا من المنصب، وسأرد في نقاط محددة:

  1. أين تقع تصريحات المفتي من وظيفته في دار الإفتاء؟ إن وظيفة دار الإفتاء ومفتيها تكمن في نقاط رئيسية، ولعل من أهمها، ومن (موقع دار الإفتاء): 
  1. الإجابة على الأسئلة والفتاوى باللغات المختلفة.
  2. إصدار البيانات الدينية.
  3. إعداد الأبحاث العلمية المتخصصة.
  4. الردّ على الشبهات الواردة على الإسلام.
  5. استطلاع أوائل الشهور العربية.

ولا أحسب أن تصريحات المفتي كانت تحت أي بند من هذه البنود، فلا هي بالفتوى العلمية، ولا هي بالبيان الرصين، ولا تدخل في باب البحوث العلمية المتخصصة، ولا في الرد على شبهة واردة، وإنما هي والكذب والجهل سواء.

    1. ما الجرم في تصريحات الإفتاء: إن الخطأ الذي ارتكبه شوقي علام لم يكن خطأ عاديا، بل كان خطأ مركبا، لأنه حوى عددا من الأخطاء، وهي كالتالي:
      1. الجهل والتضليل: إن أي إحصائيات لا يمكن أن يقوم بها أشخاص عاديون، وإنما يقوم بها المتخصصون من ذوي الخبرات، وفي القضايا الكبرى يقوم بهذه الإحصائيات مراكز بحثية لديها من القدرة والكفاءة ما يؤهلها لذلك، ومن ثم فما قام به شوقي علام يوصف بأنه جهل وتضليل، لأنه لم يقدم للناس تلك المراكز التي أعتمد عليها. وقد علمنا الإسلام أن لكل قول حقيقة، والقرآن يقول: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111].
      2. الكذب والتدليس: وحيث إن الرجل لم يقدم لنا الأدلة والبراهين التي جعلته يصف ملايين بهذا الوصف، فالقول الفصل فيما أدلى به من تصريحات: أنه كذب وتدليس، إذ الكذب هو الإخبار بالشيء علي خلاف ما هو عليه على وجه التعمد والقصد والعلم، والكذب كبيرة تجر صاحبها إلي التهلكة، روى الشيخان عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى البِرِّ، وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا. وَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا».
  • الاتهام والتحريض: وهذا واضح من كلامه، لأن مقامه ليس بالمقام الهين، إنه يعتلي (الإفتاء) في مصر وهي من هي – هكذا ينبغي أن تكون- في صدارة الدول العربية وإسلامية في المكانة والعلم. ومثل هذا الكلام قد تعتمده بعض وسائل الإعلام المغرضة لتنال من الإسلام والمسلمين، لقد كان اللائق بالقابع على كرسي الإفتاء أن يذب عن المسلمين ، وكأنه لم يسمع ما رواه أحمد عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَرُدَّ عَنْهُ نَارَ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ” (قال محققو المسند: حسن لغيره)، بل كان من الواجب عليه النصيحة إن وجد خللا، ويكفيه في النصيحة ما رواه مسلم عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ».
  1. متطلبات المفتي وأين منها شوقي علام: من القديم والعلماء يذكرون صفات عديدة ينبغي أن تتوفر فيمن يتصدر للفتوى، وابن القيم يشير إلى معرفة الواقع لصواب ما يخرج من المفتي أو العالم فيقول: ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: 
    1. أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما.
    2. والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان نبيه في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر؛ فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا… إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 69). والحق أن شوقي علام لم يعرف الواقع ولم يعرف الواجب الذي يناسب الواقع.
  2. ماذا يعرف شوقي علام عن مسلمي أوربا: وأحسب أن معلومات شوقي علام عن مسلمي أوربا تأخذ مكانا كبيرا من الضحالة، فلا هو بالرجل الرحالة كما هو حال العديد من علماء مصر وغيرها، ولا هو من المشتغلين بفقه الأقليات حتى تكون كلماته وتصريحاته في هذا المجال نابعة من دراسات ميدانية تدعمها الأرقام والإحصائيات. 

لقد كان من الواجب على شوقي علام عندما يقول: (إن ما يقرب من 50% من الجيلين الثاني والثالث من المسلمين في أوربا، ينتمون إلى تنظيم الدولة) أن نعلم أنه لا يتكلم عن 50% من 10 أشخاص ولا 100 شخص، وإنما يتكلم عن 25 مليون مسلم يعيشون في أوربا، فإذا أضفت إليهم نحو 5 ملايين في أمريكا، وفي كندا ما يقرب من مليونين، وفي أستراليا نحو مليون…  فأنت تتحدث عما يقرب من 35 مليون مسلم يعيشون كأقليات في أوربا وأمريكا وأستراليا وكندا.

لقد كان من عظمة الإسلام أن نهى عن التعميم في الحكم، ومن شيم أهل العلم أن يضبطوا أحكامهم حتى لا يتهموا بريئا بغير حق،  والله تعالى يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، يقول ابن المقفع: إذا كنت في جماعة قوم أبداً فلا تعُمَّنَّ جيلاً من الناس، أو أمة من الأمم بشتم ولا ذم؛ فإنك لا تدري لعلك تتناول بعض أعراض جلسائك مخطئاً؛ فلا تأمن مكافأتهم، أو متعمداً؛ فتنسب إلى السفه.

  • وصف نصف مسلمي أوربا بـــ (الدواعش) ماذا يعني؟ إن وصف نصف مسلمي أوربا بـــ (الدعشنة) ليس بالأمر الهين، لأنه اتهام صريح بتهم وجرائم وكبائر أمر المسلم بالابتعاد عنها، ومن هذه التهم: سوء الفهم لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مما يترتب عليه: التنطع والتشدد في الدين، ورمي الآخر بما ليس فيه من تهم، فضلا عن الطيش والسفه، وانتهاء بالغرور والكبر والتبديع والتفسيق والتكفير، وأخيرا استباحة دماء الأبرياء من المسلمين وغيرهم. وقد نهى الإسلام عن هذه الأفعال الطائشة. وما درى شوقي علام أن من هذا الجيل من رسخت قدماه في الدعوة إلى الله، وكم اهتدى على أيديهم من خلق الله.
  • الرقابة الصارمة في أوربا: ومن جملة ما دلس فيه شوقي علام وحرض، زعمه أن المراكز الإسلامية تتبع جماعة بعينها، والحق أن المراكز الإسلامية تحمل أفكارا للمسلمين القادمين من خارج أوربا، وهناك مراكز تحمل التوجه السني وأخرى تحمل التوجه الشيعي، كما أن هناك مراكز تحمل الطابع الإقليمي، فهذا مركز أو مسجد يحمل التوجه المصري، وآخر يحمل التوجه اليمني أو المغربي أو الجزائري، أو التونسي أو الفلسطيني، وإن كان من كلمة فلا بد أن يكون الانتماء للإسلام قبل هذه الوطن، وأن يندمج المسلمون في مجتمعاتهم دون ذوبان وأن يحافظوا على قيمهم وهويتهم ودينهم دون انغلاق.

لكن المهم الذي ينبغي أن يعلمه شوقي علام وغيره أن المراكز الإسلامية وإن كان لها حرية في الاعتقاد والتعبد فإن رقابة صرامة عليها في الجوانب المالية، وكل دولار أو يورو يجمع عليه من الرقابة الحكومية ما لو وجد في عالمنا العربي والإسلامي لانصلح حالها.  

  • دور المساجد والمراكز الإسلامية: أما المساجد والمراكز الإسلامية، فإن ما تقوم به من أنشطة ينبغي أن يشكر عليه القائمون والمشرفون، فهي تقوم بدور وزارة التربية والتعليم ووزارة الأوقاف ووزارة الشؤون الاجتماعية، وغيرها من الوزارات… وأما الإمام فحدث ولا حرج عن دوره، فهو معلم باعتبار ما يقوم به من تعليم، ومفت باعتبار ما  يقوم به من إفتاء، وقاض بفصله في قضايا الناس، ومصلح اجتماعي باعتبار ما يقوم به من إصلاح بين المتخاصمين، وأب باعتبار العاطفة الأبوية، وأخ باعتبار المشاركة الاجتماعية، وهو المشرف على الزواج وغيره من الأمور الأسرية، والأصل في الإمام أن يكون عالما دارسا ذا خبرة ودربة…
  • طعنة قاتلة للدعاة إلى الله والمراكز الإسلامية في أوربا والغرب: إن هذا الافتراء الذي خرج من شوقي علام، يعد كطعنة مؤلمة لهذه الجاليات المسلمة التي تقوم بدور الدعوة إلى الله تعالى بعد أن قصرت المؤسسات الدينية كالأزهر وغيره في الدعوة إلى الله تعالى، فكم هدوا حائرا، وعلموا جاهلا وأغاثوا مسكينا، لقد استطاع الكثير من الدعاة الربانيين من خلال مساجدهم ومراكزهم أن يصححوا صورة الإسلام التي شوهها الإعلام في الشرق أو في الغرب، والتي شوهها كذلك الحكام الظلمة ومن يعاونهم من علماء السلطة وفقهاء الشرطة. وليت شوقي علام سكت إذ قصر، بل زاد الطين بلة بكذبه وافترائه.
    1. شوقي علام لا يغرد وحده: والعجيب أن شوقي علام لم يغرد وحده في هذا اللون من التدليس والتحريض، فقد سبقه عبد الفتاح السيسي، وهذا يعني أنها سياسة ممنهجة، يدقع إليها شوقي علام، وأن هناك من يدبر ويخطط من وراء ستار، فمرة نسمع السيسي يقول: العالم كله أصبح خائفا ومفزوعا من المسلمين. ومرة أخرى يقول: لا يمكن أن يَقتل 1.6 مليار إنسان -يعني المسلمين- الدنيا كلَّها التي يعيش فيها سبعة مليارات حتى يتمكنوا هم من العيش. ومرة ثالثة يقول: إن الملحدين اتجهوا إلى هذا الطريق لأنهم لم يتحملوا الإساءة والظلم الذي تعرضوا له في الإسلام.
  • لا تنتظروا اعتذارا: والحق أنني لن أطالب شوقي علام بالاعتذار، لأن من يتخيل أن رجلا قابعا في هذه السلطة المستبدة سيبدي اعتذار يكون واهما، لأن ثقافة الاعتذار لا يحسنها إلا الكبار! وشوقي علام لا يصدر كلامه من تلقاء نفسه، وإنما كلامه في مجمله كلامه موجه، يخدم سياسات معينة، واتجاهات معينة.
  • الإفتاء أمانة والتقوى قبل الفتوى: ولا بد أن ندرك أن الإفتاء أمانة، وعلى العالم أن يتقي الله فيما يقول، فليس المفتي بكثرة علم وفقط، وإنما مع العلم خشية، وقد جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه: ليس العلم بكثرة الرواية، ولكن العلم الخشية. ولهذا عاب القرآن على المتاجرين بعلمهم فقال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187].

لقد كان الأجد بــ (القابع على كرسي الإفتاء) أن يتورع في قول ما ليس له به علم، والله تعالى يقول: { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، ولا حرج عليه إن توقف فيما ليس من تخصصه أو قله فيه علمه، وقد سئل الشعبي عن مسألة فقال: لا أدري: فقيل له: ألا تستحي مِن قول (لا أدري) وأنت فقيه العراق؟ فقال: لكن الملائكة لم تستح حين قالوا: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32].

  • وأخيرا: فإننا نعيش حالة من التشتت والضياع على مستوى الأمة، وحالة من الهزيمة النفسية على مستوى الكثير من الأفراد، وحالة من التقصير في أداء الرسالة على مستوى الكثير من العلماء، لذا فإن الأقليات الإسلامية إن نيل منها فهذا لا شك يتحمل وزره من يسعى جاهدا لتشويه صورة هذه الأقليات سواء رجالها وشبابها ونسائها، أو مساجدها ومدارسها ومراكزها، والله سبحانه وحده هو الحافظ من مكر الماكرين، وكيد الكائدين، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].

 

شاهد أيضاً

د علي محمد الصلابي يكتب :ليلة النصف من شعبان.. أحكام وفضائل

حرص السلف الصالح أشد الحرص على الأوقات، خصوصا فيها الأعمال التي حباها الله تعالى بمزيد …