د. عطية عدلان يكتب:فتوى الشيخ ابن باز عن التطبيع: عرض ونقض

سُئل سماحة الشيخ ابن باز – رحمه الله – عن التطبيع وعن الصلح مع اليهود؛ فأجاب إجابة تُعَدُّ – بالنسبة لحساسية الموضوع وخطورته – مُقْتَضَبَةً ومُرْتَجَلَةً إلى حدّ كبير، وجاءت أجوبته صادمة للكثيرين ومحيرة لخلق الله أجمعين، وحاول البعض استثمارها في تبرير ما تقوم به الأنظمة الآن من المسارعة إلى التطبيع مع الكيان الصهيونيّ، وحاول آخرون ممن يُكِنُّون للشيخ الاحترام والتقدير – وإنّه بذلك لجدير – أنّ يؤوّلوا فتواه بما يبرئه من القول بجواز هذا التطبيع الذي تهرع إليه الأنظمة المنبطحة في زماننا هذا.

    والموقف في الحقيقة ليس موقف التبرير ولا موقف التصحيف والتزوير، وإنّما هو موقف الجدية والمنهجية العلمية المتجردة من التعصب للشيخ أو التشنج ضده، يجب أن نخلص من كل هذه الجواذب المشغلة؛ لندلف إلى مضمون الفتوى عبر عرضها على المعيار الذي لا يضِل ولا يزِل، معيار الشريعة الغراء، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تركنا على المحجّة البيضاء، وجاءنا بها بيضاء نقية؛ فلا ريب أنّ الحقيقة لن تغيم ولن تغيب إذا بذلنا وسعنا في البحث والتنقيب.

    ولنبدأ بعرض موجز لأحكام الهدنة في الشريعة الإسلامية، ثم ننظر كيف يمضي بنا الحديث، فقد عرف العلماء الهدنة بتعريفات متقاربة، من أقْوَمِها تعريف الموسوعة الفقهية الكويتية: “مصالحة أهل الحرب على ترك القتال مدة معينة بعوض أو غيره”[1]، وتسمى الهدنة والموادعة والمتاركة والمهادنة والصلح.

    وأمّا عن حكم الهدنة فإنَّ الأئمةَ الأربعة وعلماءَ الأمصار كافَّةً متفقون على أمرين، الأول: أنّ الهدنة مع دار الحرب جائزة بشروطها، الثاني: أنّ جوازها مرهون بشروط لا بدّ من توافرها، وإلا كانت باطلة ولو بفقد شرط واحد من الشروط؛ إذ إنّ الشرط ما يلزم من عدمه العدم، فلو فقد شرط واحد لم يغن عن البطلان توافر باقي الشروط، وهذا الكلام بأدلته مبسوط في كتب الحنفية[2]، والمالكية[3]، والشافعية[4]، والحنابلة[5]، والزيدية[6]، والإمامية[7]، والإباضية[8]، وغيرهم[9]، بل لقد نُقل الإجماع على جواز الهدنة بالشروط المقررة عند العلماء[10]، لكن دعوى الإجماع يردها أن الظاهرية وعلى رأسهم ابن حزم قالوا بأن المهادنات كلها منسوخة بآيات السيف[11].

    وكما أنّ جواز الهدنة بشروطها صار من المحكمات والثوابت باتفاق العلماء عليه وبكثرة ما قام عليه من أدلة من الكتاب والسنة القولية والعملية؛ فإنّ الشروط التي يجب توافرها في الهدنة لكي تصح وتجوز وتلزم الأمة الإسلامية، والتي إن غاب منها شرط واحد بطلت وحرمت وانفرط عقدها هي أيضاً ترتقي إلى مستوى المحكمات؛ إذْ توافقت عليها جميع مذاهب جماهير العلماء القائلين بالجواز، مع كونها متآلفة تمام التآلف مع مقاصد الشريعة وأصولها العامّة.

وقد اشترط العلماء لصحة الهدنة أو الصلح شروطاً، اتفق عليها القائلون بجواز الهدنة وهم الجمهور، فإذا أُضيف لاتفاقهم أنّ الظاهرية خالفوهم في جواز الهدنة من حيث الأصل؛ فيكون القدر المجمع عليه هو عدم جواز المصالحة مع دار الحرب إذا غاب شرط من الشروط التي اشترطها العلماء.

    أول هذه الشروط: أن يكون في المصالحة مصلحة للمسلمين، فإن لم يكن فيها مصلحة للمسلمين لم تجز؛ لأنّ الأصل مع دار الحرب إمضاء الجهاد[12]، وثاني هذه الشروط: «ألا يشتمل عقد الهدنة على شرط فاسد» وهذا الشرط ورد ذكره في كافة المذاهب الإسلامية، إما بالنص عليه مباشرة، أو بذكر أمثلة للشروط الفاسدة التي لا يصح معها العقد، وهي لا تقل عن التصريح بالشرط[13].

    وثالث هذه الشروط: يرى جمهور الفقهاء « المالكية والشافعية والحنابلة والزيدية»[14]، أن عقد الهدنة لا يجوز أن يعقده مع المشركين إلا الإمام أو من ينوب عنه، لأنه عقد يترتب عليه تعطيل الجهاد وهو من المصالح العامة التي لا يقف عليها غير الإمام، وخلاف الحنفية ضعيف لا دليل عليه، ورابع هذه الشروط ألا يكون العقد مؤبداً، ومن تأمل أقوال المذاهب يتبين له أنهم لم يختلفوا في عدم جواز التأبيد، وإن كانوا قد اختلفوا هل يشترط تحديد المدة أم يجوز أن تكون مطلقة، واختلف القائلون بعدم جوازها مطلقة: هل لها مدة محددة في الشرع أم أن تحديدها يرد إلى نظر الإمام وإلى حاجة المسلمين؟[15]، وبالجملة: «تجوز مطلقة ومؤقتة، فأما المطلقة فجائزة غير لازمة يخير بين إمضائها وبين نقضها، والمؤقتة لازمة»[16].

    هذان الأمران المتكاملان محكمان ثابتان لا لَفَّ حولهما ولا دوران، الأول: جواز الهدنة بشروطها الأربعة الآنفة الذكر، الثاني: بطلان الهدنة وحرمتها إذا فقدت شرطا واحداً من تلك الشروط الأربعة.

    فلننظر في فتوى الشيخ ابن باز في ضوء ما قرره العلماء واتفقوا عليه، يقول رحمه الله تعالى: “تجوز الهدنة مع الأعداء مطلقة ومؤقتة إذا رأى وليّ الأمر المصلحة في ذلك” لقوله سبحانه: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنّه هو السميع العليم) ولأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم فعلهما جميعا”[17]، ويواصل: “ولأنّ الحاجة والمصلحة الإسلامية قد تدعو إلى الهدنة المطلقة ثم قطعها عند زوال الحاجة، كما فعل ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد بسط العلامة ابن القيم القول في ذلك في كتابه أحكام أهل الذمّة، واختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم”[18]، ويتابع: “لا يلزم من الصلح بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين اليهود ما ذكره السائل بالنسبة لبقية الدول، بل كل دولة تنظر في مصلحتها، فإن رأت أن من المصلحة للمسلمين في بلادها الصلح مع اليهود في تبادل السفراء والبيع والشراء وغير ذلك من المعاملات وغير ذلك من المعاملات التي يبيحها الشرع المطهر فلا بأس في ذلك”[19]، قال ذلك في صدد الإجابة على سؤال عن مدى جواز التطبيع، ثم يستطرد مبيناً أنّ مثل هذا الصلح لا يترتب عليه ولاء لليهود ولا محبة لهم ولا غير ذلك.

    هذا ما قاله الشيخ وأفتى به، وقرره وكرره، وأيده فيه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، وعنهما نقلت الفتوى عبر المواقع والميديا إلى أقطار الدنيا، ولكن السؤال هنا: هل المشايخ يعيشون تحت هذه الأرض فلا دراية لهم ولا علم بما يجري فوقها؟! ليس هذا طعنا في أمانتهم على العلم، وإنّما هو لقطع السبيل على المبررين الذين يسرفون في التبرير بما يعود على مؤسسات الفتوى بالخلل والاضطراب، فمن المعلوم لدى العلماء وأنصاف العلماء وأرباعهم أنّ الحكم على الشيء فرع عن تصوره؛ فهل تصور الشيخ المسألة؟ وهل سأل عن واقعها إذ سُئِلَ عن حكمها الشرعيّ؟! ينبغي أن نقول الحق في هذه المسألة واضحاً، وأن يقال إنّ الشيخ أخطأ في فتواه، لا أن تلتمس له الأعذار التي لا يصح أن تلتمس لطالب علم مغمور فضلا عن عالم كبير وعَلَمٍ مشهور، إنّ الخطأ الذي نرتكبه نحن هو إقرار مبدأ التقديس في المنهج العلميّ، وهذا لعمر الحق زلل كبير ودجل خطير، أمّا مكانة الرجل وأمثاله من الرجال فهي محفوظة ويجب أن تبقى محفوظة، وليس من الدين الحطّ من أقدار العلماء وأخذهم بزلاتهم.

    إنّ فتوى الشيخ – بالمقاييس العلمية المنهجية – مطمورة في الخطأ والزلل ومجللة بالخرافة والدجل، ومخالفة لشريعة الإسلام في شكلها ومضامينها كافّة، فما هذه بفتوى في مسألة من المسائل العظام ونازلة من النوازل الجسام، ولو أنّ الشيخ سئل عن امرأة رأت الدم في غير أيام عادتها لسأل أولا عن لونه وشكله وهل تكرر من قبل أم لا ولأطال وفصّل وأوضح وبيّن، وإنّ فتاواه لتملأ الدنيا سهلها ووعرها – جزاه الله خيرا عن الإسلام والمسلمين – وأمّا في مسألة كهذه يتعلق بها مصير الأمة وحاضر ومستقبل المسلمين فيطرحها هكذا ويلقيها كما يلقي البصقة من فيه!

    إنّ ما جرى في واقع الأمة اليوم ليس من قبيل الهدنة أو الصلح الذي يتحدث عنه الشيخ ويسوق له الأدلة، إنّه لا يتوافر فيه شرط واحد من الشروط الأربعة التي إن غاب منها شرط واحد كان عقد الهدنة باطلا ومحرما، إنّ معاهدات السلام التي أبرمها الكيان الصهيونيّ مع الدول العربية كل منها على انفراد، وما تلى ذلك من عمليات التطبيع؛ ليست سوى استسلام لهذا الكيان المجرم الذي يحتل الأرض ويطرد منها أهلها، ويهيمن على المقدسات الإسلامية، ويقبع في كبد الأمة يمكر بها ويكيد لها، ويربض في خاصرة العالم الإسلاميّ كخنجر مسموم سلته على الأمة قوى الإمبريالية العالمية.

    إنّ فتوى الشيخ ومن تابعه عليها من المشايخ صارت اليوم متكأ لمن يقولون بجواز التطبيع مع العدو الصهيونيّ الذي لا يزال إلى اليوم يعتدي على المسلمين ويرميهم بالحمم، والتطبيع هو السلام الدائم وقيام علاقات طبيعية كسائر العلاقات الطبيعية بين الدول، بل إنّه في الواقع لا يقف عند حدود المعنى المباشر وإنما يتجاوز ذلك إلى شراكات سياسية واقتصادية وثقافية، بلغت اليوم حد التمهيد للولايات المتحدة الإبراهيمية التي تتزعمها إسرائيل وتدين بالدين الإبراهيمي الجديد الذي تنصهر فيه كل الأديان الثلاثة!!

    ولنبدأ بتلك العبارة التي تكررت من الشيخ وتكرر بها التلبيس على الناس، وهي جواز الهدنة مطلقة ومقيدة بمدة، وهذا القول صحيح فقهيا، فالهدنة جائزة مقيدة ومطلقة، ولكنّ معاهدات السلام مع إسرائيل وما ترتب عليها من التطبيع مع الصهاينة ليست هدنة وليست مؤقتة ولا مطلقة، وإنّما هي سلام شامل ودائم بين المسلمين وبين العدو المحتل الغازي المعتدي المغتصب، الذي أوجب الله قتاله وجوبا عينيا، فجهاده من الصور التي يتعين فيها وجوب الجهاد الذي هو في الأصل فرض كفاية.

    أمّا كون معاهدات السلام مع الكيان الصهيونيّ مؤبَّدة فهذا ما لا يجهله ولا ينكره أحد، بل لا يستطيع زعيم ممن وقعوا على هذه المعاهدات أن يملأ فمه بزعم أنّها ليست دائمة، لأنّ نصوصها وفحواها وسياقاتها تطفح بوصف التأبيد، وبرغم أنّ القاصي والداني والطفل الغفل والشيخ الفاني يعلمون ذلك جيدا؛ نسوق بعض النصوص من معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية – على سبيل المثال – ففي الديباجة: “اقتناعا منهما بالضرورة الماسة لإقامة سلام عادل وشامل ودائم في الشرق الأوسط”[20]، وفي المادة الثانية: “إنّ الحدود الدائمة بين مصر وإسرائيل هي الحدود الدولية المعترف بها بين مصر وفلسطين تحت الانتداب”[21]، وفي المادة الثالثة: “يقر الطرفان ويحترم كل منهما سيادة الآخر وسلامة (أراضيه!) واستقلاله السياسيّ”[22]، وغير ذلك الكثير.

    وأمّا عدم جواز تأبيد الهدنة فهذا هو عين ما اتفق عليه العلماء، بل نقل كثير من العلماء الإجماع على عدم جواز التأبيد[23]، وهذا الذي اتفق عليه السابقون قال به كثير من المعاصرين، منهم الدكتور وهبة الزحيلي: «اتفق الفقهاء على أن عقد الصلح لابد أن يكون مقدرا بمدة معينة، فلا تصح المهادنة إلى الأبد من غير تقدير بمدة، وإنما هي عقد مؤقت؛ لأن الصلح الدائم يفضي إلى ترك الجهاد»[24]، ومنهم الدكتور فتحي الدريني: «على أنه إذا اقتضت ظروف المسلمين إيقاف القتال، جاز ذلك مهادنة، لا سلما ولا صلحا، شريطة أن يكون لفترة موقوتة لا تطول، لاستجماع القوى، وإعداد العدة على أرفع مستوى، ثم استئناف الجهاد من جديد … كيلا تنقطع أو تتعطل فريضة الجهاد، لأنها – في شرع الإسلام – مستمرة أبدا، دفاعا عن الحق والعدل الذي كثيرا ما يبغي عليه، فلا بد له من قوة قادرة تحميه، وحتى لا يتخذ العدو من الوقت المتسع في المهادنة فرصة للاستعداد والتأهب لمعاودة شن الحرب على المسلمين من جديد».

    أمّا التقييد والإطلاق فهو أمر آخر لا علاقة له بالتأبيد من عدمه، فالتقييد هو توقيت العقد بمدة محددة، وأما الإطلاق فهو عدم التقييد بمدة معينة، ولكن الإطلاق لا يعني التأبيد، وإنّما يعني قيام الهدنة ما لم يتفق الطرفان على إنهائها أو ينبذ أحدهما إلى الآخر العهد، أو يحدث ما يستدعي إنهاءها، يقول ابن القيم: “ويجوز عقدها مطلقة، وإذا كانت مطلقة لم يمكن أن تكون لازمة التـأبيد بل متى شـاء نقضها”[25]، وهذا الذي قاله ابن القيم يفصل بين الإطلاق والتأبيد، وقد اخترت كلام ابن القيم هنا لأنّ سماحة الشيخ سامحه الله ردنا إليه وإلى شيخ الإسلام ابن تيمية بإبهام يشعر بأنّه أخذ عنهما، ولو أخذ عنهما لما قال ما قال!

    والواقع أنّ العلماء وأئمة المذاهب اختلفوا هل يجوز الإطلاق أم لابد من تحديد مدة؟ ثم اختلفوا في المدة المحددة كم هي هل سنة أم عشر سنين، والراجح أنها تجوز مؤقتة ومطلقة، ولكن لا تجوز مؤبدة باتفاق، فإن أقتت فتحديد المدة متروك لاجتهاد القيادة السياسية، وتكون عندئذ لازمة ما لم تحدث مخالفة، وإن أطلقت كانت جائزة، بمعنى أنها تصير من العقود الجائزة غير اللازمة، أي العقود التي يجوز لأحد الطرفين الخروج منها متى شاء، بشرط نبذ العهد، وهذا ما نص عليه العلماء[26].

    وما أورده الشيخ من أحداث وقعت في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم كانت في الحقيقة عقود ذمّة لا هدنة، والعلماء «فرّقوا بينهما بأن عقد الذمّة أقوي وآكد؛ ولذا كان موضوعاً على التأبيد بخلاف عقد الهدنة والصلح»[27]، يقول الأمام ابن القيم: «صار في اصطلاح كثير من الفقهاء أن أهل الذمّة عبارة عمن يؤدي الجزية، وهؤلاء لهم ذمّة مؤبّدة وهؤلاء قد عاهدوا المسلمين على أن يجري عليهم حكم الله ورسوله إذ هم مقيمون في الدار التي يجري فيها حكم الله ورسوله بخلاف أهل الهدنة فإنهم صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم سواء كان الصلح على مال أو غير مال لا تجري عليهم أحكام الإسلام كما تجري على أهل الذمّة لكن عليهم الكف عن محاربة المسلمين وهؤلاء يسمون أهل العهد وأهل الصلح وأهل الهدنة»[28]

    والصحيح أن النبي عقد لليهود في المدينة عقد ذمّة، بدليل أن الصحيفة تضمنت بنداً يقضي بأن يرد الأمر في كل ما اختلف فيه إلي الله ورسوله: «وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فمرده إلي الله ومحمد» وهذا معناه أن أحكام الإسلام تجري عليهم، وهذا هو العنصر الأول من العناصر المميزة لعقد الذمّة وهو عنصر (الصغار) أما العنصر الثاني وهو الجزية فلم يكن قد شرع بعد، وما يقال هنا يقال عن أهل خيبر، يقول ابن القيم: «والنبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت عقد الصلح والهدنة بينة وبين اليهود لما قدم المدينة بل أطلقه ما داموا كافين غير محاربين له فكانت تلك ذمتهم غير أن الجزية لم يكن نزل فرضها بعد»[29]، ويقول في موضوع آخر: «ولا يقال: أهل خيبر لم تكن لهم ذمّة بل كانوا أهل ذمّة قد آمنوا بها على دمائهم وأموالهم أمانا مستمراً، نعم لم تكن الجزية قد شرعت ونزل فرضها، وكانوا أهل ذمّة بغير جزية، فلما نزل فرض الجزية استؤنف ضربها على من يعقد له الذمّة من أهل الكتاب والمجوس، فلم يكن عدم أخذ الجزية منهم لكونهم ليسوا أهل ذمّة بل لأنها لم تكن نزل فرضها»[30].

وأما عهد النبي صلى الله عليه وسلم لبني ضمرة فقد كان أيضاً عقد ذمّة، يدل على ذلك نص الكتاب الذي كتبه إليهم، فكون الكتاب ينص على أن “لهم ذمّة الله ورسوله ولهم النصر وأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم”، يدل على أن العقد عقد ذمّة لا عقد هدنة، وقد سبق أن عقد الذمّة يؤبّد بخلاف عقد الهدنة، وكذلك كتاب النبي لأهل نجران كان عقد ذمّة بدليل ما فرضه عليهم في أموالهم، وبدليل أنه حرم عليهم أخذ الربا، وهذا إجراء لأحكام الإسلام عليهم، وبدليل أنه أرسل إليهم من يكون أميراً عليهم وهو أبو عبيدة بن الجراح؛ فهذه العقود التي استدل بها الشيخ عقود ذمّة لا هدنة ولا موادعة «وعقد الموادعة عقد غير لازم؛ وهو إمّا أن يكون مطلقاً أو مؤقتاً, ولكن الذي يكون مؤبداً هو عقد الذمّة»

    هذا عن شرط عدم التأبيد، أمّا شرط أن يكون عاقدها هو الإمام أو من ينوب عنه، فَمَنْ يكون الإمام اليوم؟ ومن يكون نائبه؟ وبرغم خطورة السؤال وحاجة الأمة إليه في واقعها المعاصر في ظل حكم جبرية صلعاء خشوم تتسول الشرعية في المحافل الدولية الغارقة في النفاق الدوليّ وتفتقدها في عمق الأمة التي لم تقم باختيارها يوما، أقول برغم عدم شرعية هذه الأنظمة وعدم أحقيتها بتمثيل المسلمين سنتجاوز هذا ونعتبر هؤلاء الحكام حكاما بحكم الواقع المفروض علينا شئنا أم أبينا، فبرغم ذلك لم يتوفر في واحدة من هذه المعاهدات شرط الأهلية؛ لأنّه في ظل انقسام الأمة إلى كيانات متعددة فإن عقد الهدنة لا يمكن أن يصح شرعا إذا عقده واحد من الحكام بانفراده إلا إذا كان أمر السلم يخص الإقليم الذي يحكمه فقط ولا ينعكس على غيره من بلاد الإسلام.

    والواقع أنّ العدو الإسرائيلي ليس عدوا لإقليم واحد، وقضية الصراع مع هذا الكيان لا يمكن أن تتجزأ؛ ليس لأنها تضر جميع الأطراف وحسب، ولكن لذلك ولأمر آخر أكبر وأقدم وهو أنها قضية صراع على الدين والمقدسات.

لذلك لا يصح أن يعقد الصلح مع إسرائيل حاكم واحد بانفراده، ولا يصح أن تكون المحادثات ثنائية بين إسرائيل وكل طرف عربي على حدة؛ لأن القضية واحدة، ولأن العدو واحد، ولأن الضرر واقع على الكل؛ يقول الدكتور الدرينيّ[31]: «وعلى هذا فالإسلام يوجب إذا تعددت دوله في أقاليمه المختلفة، ألا ينفرد رئيس دولة إسلامية منها، بعقد السلم مع العدو المشترك دون سائر رؤساء الدول الإسلامية، توحيدا للسياسة الخارجية، فقد جاء في الصحيفة ما نصه: «وَأَنَّ سِلْمَ الْمُؤْمِنِينَ وَاحِدٌ، وَلا يُسَالِمُ مُؤْمِنٌ دُونَ مُؤْمِنٍ فِي قِتَالٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلا عَلَى سَوَاءٍ وَعَدْلٍ بَيْنَهُمْ »[32].

ثم إن هناك أمرا هاما مبنيا على وجوب الشورى وعلى أنها في نظام الحكم الإسلامي ملزمة للحاكم، هذا الأمر هو أن معاهدة السلام تتطلب لكي تتمتع بصفة اللزوم والنفاذ أن يوافق عليها أهل الشورى[33]، وأهل الشورى الذين يرد إليهم أمر معاهدة السلام مع العدو الإسرائيلي ليسوا محصورين في إقليم واحد وإنما هم مبثوثون في جميع أنحاء العالم الإسلامي، في أنظمة حكمه وفي مؤسساته الدينية والسياسية والعلمية.

    وهذا المعنى أدركه وزراء خارجية مصريون في عهد السادات استقالوا بسبب أنّ المعاهدة تمثل صلحا منفردا مع إسرائيل، فبمجرد إعلان السادات عن زيارته للقدس استقال وزير خارجيته إسماعيل فهمي وبعده بقليل استقال وزير الدولة للشئون الخارجية محمد رياض ثم السفير مراد غالب سفير مصر في يوغسلافيا[34]، وكل هؤلاء اعترضوا على انفراد السادات بالصلح لا على فكرة الصلح؛ فقد كانت جميع حكومات المنطقة على موعد مع مؤتمر جنيف الذي كان من المفترض عقده تحت مظلة الأمم المتحدة، وكان سيشارك فيه الجميع، وقبل أن يوقع السادات معاهدة كامب ديفيد استقال محمد إبراهيم كامل.

     وقد نقل غسان حمدان في كتابه “التطبيع استراتيجية الاختراق الصهيونيّ” نقل عن مجلة الأرض العدد 22 الصادرة في 7/8/1981م ص 21 بأنّ بيجن تلقى وعدا من السادات في لقاء أسوان سنة 1980م بأنّ “مصر لن تتدخل في أيّ نزاع عسكريّ قد يحدث بين إسرائيل وسورية بسبب الأزمة في لبنان” وعلق قائلاً: “وهذا ما شجع إسرائيل لتشن هجومها على وتجتاح لبنان عام 1982م”[35].

   وأمّا عن شَرْطَيْ تحقق المصلحة وعدم الاشتمال على مفسدة أو شرط فاسد، فإنَّه من الواضح تماماً أنّ المصلحة كاملة وموفورة للصهاينة المجرمين، والمفسدة متمحضة للعرب والمسلمين أجمعين، فلقد نجحت إسرائيل في الإفلات من مؤتمر جنيف الذي كان من المفترض أن يسير على خطى القرار رقم 242 لمجلس الأمن، والذي برغم أنّه يعطي اليهود أرضا اغتصبوها قبل 67 إلا أنه يردهم إلى حدود ما قبل 67 وهذا ما لم تحققه جميع معاهدات السلام التي أبرمت بين إسرائيل ومصر من جانب، وبين إسرائيل ومنظمة التحرير من جانب آخر، فلا حق العودة ولا حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير ولا عودة الأرض المنهوبة بالعدوان والغصب في 67 بل فقط حكم ذاتي لا قيمة له ولا سيادة، وفي المقابل تم الاعتراف الكامل بدولة إسرائيل، التي نجحت في التغلغل والتوغل في أحشاء الدول العربية كافة عبر تطبيع ظاهره التشارك وباطنه التركيع!!

«والاعتراف الكامل فسّر على أن مصر تعترف بأن إسرائيل دولة مستقلة ولها سيادة في المنطقة.. ولكن لماذا لم يتضمن هذا الاعتراف اعترافا أيضا بالسلطة الفلسطينية؟…. وهذا يعتبر تقريرا للغاصب في البقاء على اغتصابه لأرض فلسطين وللأماكن المقدسة»[36]، هذا الاعتراف ليس إلا أداة لاستدامه القهر من الغالب للمغلوب: «ومن ثم لا يقر الإسلام سلماً هي في جوهرها وسيلة لاستدامة قهر المغلوب، أو الإبقاء على آثار عدوان الظالم، تحكيما للقوة الغاشمة في العلاقات الدولية، أو عملا بما يسمى سياسة الأمر الواقع، لما تتضمن هذه السياسة من تغليب القوة على الحق والعدل، وهذه مناقضة لأصول الإسلام، ومقاصده الأساسية، أو نظامه الشرعي العام الذي هو حق الله ومعلوم أنه لا يملك أحد أن ينقض حق الله عن طريق التراضي أو التعاقد، وإلا بطلت شرائع الإسلام جملة، وذلك باطل، فما يؤدي إليه باطل بالبداهة، لتناقض الإرادة والتصرف مع مقتضيات الصالح العام»[37].

ومثلما حدث في معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية حدث في معاهدات السلام مع الفلسطينيين، فالذي حدث “ليس مجرد هدنة، بل هو أكبر وأخطر، هو اعتراف لليهود لأن الأرض التي اغتصبوها بالحديد والنار وشرّدوا منها أهلها بالملايين أصبحت ملكاً لهم، وأصبحت لهم السيادة الشرعية عليها … فما حدث إذاً ليس هدنة…”[38].

ومن المفاسد أيضا أن المعاهدة تضمنت اتفاقا على قيام علاقات طبيعية كتلك القائمة بين الدول التي هي في حالة سلام دائم، وهذا الاتفاق هو الذي فتح الباب على مصراعيه لإسرائيل كي تعشش في ضمير الأمة وفي كيانها، فتفسد الأخلاق والثقافة والاقتصاد وغيرها من مجالات الحياة الإسلامية، وكيف نأمن لهؤلاء وهم يقولون في بروتوكولاتهم: «إن الغاية تبرر الوسيلة، وعلينا -ونحن نضع خططنا- ألا نلتفت إلى ما هو خير وأخلاقي بقدر ما نلتفت إلى ما هو ضروري ومفيد» [39]، وكيف نأمن لهم اليوم نحن نرى بعد كل المعاهدات عدوانهم المتكرر على الفلسطينيين في غزة وجينين وبيت لحم، ونرى عوانهم على أهل القدس وتهجيرهم لهم واستمرارهم في بناء المستوطنات، وما يدبرونه للأقصى؟!

   ولقد حققت إسرائيل في ظل هذا الأمن والاستقرار سبقا كبيرا في مجال التسلح، فقد أعد مركز مكافحة انتشار الأسلحة النووية التابع لسلاح الجو الأمريكي تقريرا عام 1999م أورد فيه أن إسرائيل تمتلك 400 قنبلة نووية فيها قنابل هيدروجينية، وأنها أنجزت في عام 1995م قنابل نيتروجينية وألغام نووية وقنابل الحقيبة، وأشار التقرير إلى امتلاك إسرائيل لـ50: 100 صاروخا من نوع يريحو 1 و 30: 50 من نوع يريحو 2 هذا بالإضافة إلى أعداد هائلة من القنابل النووية الصغيرة والتكتيكية والأسلحة الكيماوية والبيولوجية والصواريخ البالستية [40].

إن إسرائيل بهذه الحدود الآمنة التي تمتعت بها، وبهذه المتاركة الدائمة المطْلقة من الأمة الإسلامية استطاعت أن تخطو خطوة كبيرة في سبيل تحقيق حلمها الذي عبرت عنه في البروتوكول الخامس: «إننا نقرأ في شريعة الأنبياء أننا مختارون من الله لنحكم الأرض، وقد منحنا الله العبقرية، كي نكون قادرين على القيام بهذا العمل، إن كان في معسكر أعدائنا عبقري فقد يحاربنا، ولكن القادم الجديد لن يكن كفؤا لأيد عريقة كأيدينا»[41].

    ومما يؤكد هذا الخطر واقع إسرائيل اليوم بالنسبة للدول الإسلامية من جهة التسليح والقوة العسكرية والاستعداد العسكري الدائم وغير ذلك، وهو أمر تعرفه العامة والخاصة، وقد كانت الأمة العربية بعد حرب أكتوبر قوية ومتحدة وأبين دليل على ذلك سلاح البترول الذي استفز الغرب وجعله يهرول إلى البحث عن حل للقضية.

    إن مصلحة استرداد رقعة من الأرض لا تساوي شيئا إذا قيست بحجم المفاسد والشرور المترتبة على الاعتراف بسيادة إسرائيل على أرض اغتصبتها من المسلمين، وإعطاء الفرصة لها لكي تنطلق انطلاقتها الكبرى في التسلح والاستعداد العسكري الكبير، وفتح المجال على مصراعيه للتغلغل الصهيوني الذي يفسد كل صالح في حياة المسلمين، وإن الصهيونية لكي تصل إلى هدفها المنشود لا تفرق في هذا بين وسيلة حربية وأخرى سلمية.

    «وقد كشف إسرائيل شاحاك رئيس رابطة حقوق الإنسان الإسرائيلية عن هدف المخطط الصهيوني بقوله: إن السيطرة على الشرق الأوسط هدف كل السياسات الإسرائيلية، وإن هذا الهدف مشترك بين كل الحمائم والصقور على السواء، وإن كان الاختلاف بينهم على الوسيلة: بالاحتلال أم بالسيطرة الاقتصادية؟»، وهو المعنى نفسه الذي ذهب إليه شيمون بيريز عندما قال: إن إسرائيل تواجه خيارا حادا: فإما أن تكون إسرائيل الكبرى اعتمادا على عدد الفلسطينيين الذين تحكمهم، أو أن تكون إسرائيل الكبرى اعتمادا على حجم السوق التي تحت تصرفها»[42].

    فإذا كانت جميع شروط الجواز والصحة منعدمة، فكيف نقول بالجواز والصحة في حين أن افتقاد شرط واحد يفضي إلى البطلان والحرمة؟! إنّ هذه المعاهدات باطلة ومحرمة وجريمة ترتكب في حق الإسلام والمسلمين، وإنّ ما تقدم من عرض المسألة في جانبها الفقهي ليس إلا على سبيل التَّنَزُّل مع الخصم، وإلا فالمسألة هجرت منطقة الفقه من زمن بعيد ولاذت بمقام العقيدة، بعدما رأينا من حال أولئك الحكام الذين نزلوا مع أعداء الأمة وأعداء دينها في قلب النَّفق المظلم الذي يقبعون فيه جميعاً، وإنّ نداء الآيات المعلنة عن الحقائق والدقائق يصخ الآذان: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (المائدة 51)، (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) (المائدة 52).

   رحم الله الشيخ ابن باز رحمة واسعة وعفا عنّا وعنه وعن سائر المسلمين، وإنّنا لنحبه في الله لعلمه وزهده وورعه ودعوته ومواقفه البيضاء، ولكنّ الحقّ أحب إلينا منه، وكما قيل يعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال، فأمثال الشيخ ابن باز يحفظ لهم قدرهم واحترامهم؛ لأنهم في النهاية ليسوا كهؤلاء السفهاء الذين يدورون في فلك الأنظمة، لكن هذا لا يعني السكوت عن الخطأ أو محاولة تبريره.


الهامش

شاهد أيضاً

د علي محمد الصلابي يكتب :ليلة النصف من شعبان.. أحكام وفضائل

حرص السلف الصالح أشد الحرص على الأوقات، خصوصا فيها الأعمال التي حباها الله تعالى بمزيد …