صلاح عبد المقصود يكتب: سيف الإسلام البنا.. رجل الدعوة والدولة

ما أشبه رحيله برحيل والده في مثل هذا الشهر منذ 67 عامًا!

رحل الإمام البنا شهيدا ليلة 12 فبراير من عام 1949 وعمره 42 عامًا, وكان عمر نجله سيف الإسلام آنذاك أقل من 15 عاما .

عاش أستاذنا سيف الإسلام بعد رحيل والده 67 عاما، قضاها في صفوف دعوة الإخوان المسلمين جنديا وقائدا، وعاصر محنها الواحدة تلو الأخرى .

من حل الجماعة واعتقال قياداتها – عدا والده المرشد – في 8 ديسمبر 1948 بقرار من حكومة النقراشي, إلى اغتيال الوالد في 12 فبراير 1949, وخروج جثمانه محمولا على أكتاف والده وثلاث نساء بعد أن اعتقل الأمن كل من أراد تشييع جنازته !ولم يجرؤ على تقديم العزاء إلا مكرم عبيد باشا أحد رجال السياسة المسيحيين .

بعد ذلك بخمس سنوات كانت محنة 1954 ، واعتقال الآلاف، وإعدام عدد من القيادات على أعواد المشانق، وقتل العشرات بإطلاق النيران عليهم داخل زنازينهم بسجن طرة !

ثم محنة 1965 والتي حوكم فيها الآلاف أيضا وانتهت بأحكام السجن على الغالبية، وإعدام عدد من قيادات الإخوان على رأسهم شهيد القرآن سيد قطب رحمه الله .

ثم حملات الاعتقال والمحاكمات العسكرية في عهد مبارك، وتغييب عشرات الآلاف من الإخوان خلف أسوار السجون.

وأخيرا الانقلاب العسكري الدموي في 3 يوليو 2013 ، وما صاحبه وأعقبه من مذابح راح ضحيتها الآلاف من الشهداء، وجرح عشرات الآلاف, واعتقال أكثر من خمسين ألفا على رأسهم رئيس مصر المنتخب الدكتور محمد مرسي، وعدد من الوزراء والمحافظين والمستشارين والبرلمانيين، ورؤساء أحزاب، وقيادات العمل الإسلامي وفي مقدمتهم المرشد العام للإخوان المسلمين، ومعظم أعضاء مكتب الإرشاد .

لم يكن سيف الإسلام بعيدا عن هذه المحن بل نالت منه ومن أسرته.

لقد رحل الوالد وترك نجله الوحيد ذا الخمسة عشر ربيعا وبناته الست اللائي يكبرنه ويصغرنه ليرعاهن الإبن، إضافة للوالدة، فكان رجلا بحق، وأدى واجبه نحوهن، وقدم شؤونهن على شأنه الخاص في مواقف لا يتسع المقام لذكرها .

في عام 1965 اعتقله نظام عبدالناصر، ثم أفرج عنه محددا إقامته في منزله لمدة عام .

ثم عاد فاعتقله عام 1969 وقدمه للمحكمة العسكرية التي حكمت عليه بعشر سنوات، قضى منها 4 سنوات, فقد رحل عبدالناصر، وجاء السادات ليفرج عن السجناء والمعتقلين .

لم يكن أستاذنا سيف الإسلام بعيدا عن العمل العام منذ نعومة أظفاره .

أذكر أنه حكى لي موقفا حدث بينه وبين والده الذي فوجيء بنجله عائدا ذات يوم من مدرسته، يحكي له حوارا دار بينه وبين زملائه في المدرسة حول المفاوضات مع الاحتلال الإنجليزي بخصوص الجلاء عن مصر, وسأل والده ماذا لو لم يخرج الإنجليز من مصر؟

فقال والده: ” سنرسلك مع كتيبة لإخراجهم بالقوة “

وبسرعة بديهة رد سيف على والده ببيت عنترة بعد أن غير لفظ الضمير قائلا :

وسيفك كان في الهيجا طبيبا   يعالج رأس من يشكو الصداع

وتلمع عين الأستاذ سيف وهو يقول لي: عندما سمع والدي ردي احتضنني، وطبع على جبيني قبلة، لا زلت أتحسس موضعها حتى اليوم !

كان رحمه الله حاد الذكاء لدرجة أنه التحق بكليتي دار العلوم والحقوق بجامعة القاهرة في وقت واحد !ورغم صعوبة الدراسة إلا أنه كان يؤدي الامتحان في الكليتين وينجح فيهما بتفوق، وتخرج في دار العلوم عام 1956 ، وتأخر تخرجه في كلية الحقوق إلى العام التالي 1957 بسبب إجراء امتحانات الكليتين في ذات الأيام على خلاف السنوات السابقة .

خاض أستاذنا سيف الإسلام العمل السياسي والنقابي، وقدم نموذجا يحتذى للسياسي والنقابي ..

في عام 1987 تحالف الإخوان المسلمون مع حزبي العمل والأحرار، وشكلوا ماعرف آنذاك بالتحالف الإسلامي، وخاض سيف الإسلام الانتخابات البرلمانية بالدائرة الرابعة بالقاهرة والتي كانت تضم من بين أحيائها حي الدرب الأحمر حيث كان المركز العام للإخوان المسلمين، ونشاط الوالد المرشد حسن البنا، وكانت المفاجأة في الترحيب الكبير من أهالي الدائرة بنجل الإمام الذي جاء يبشر بعودة الإخوان بعد غياب قسري دام لعشرات السنين، لكن الناس لم تنس ما قدمه الإخوان، فمنحوهم ثقتهم  وفاز البنا باكتساح، وكذلك فاز التحالف الإسلامي وأصبح يمثل المعارضة الرئيسية بالبرلمان لنظام مبارك .

وفي عام 1992 خاض سيف الإسلام انتخابات نقابة المحامين .

لقد تخرج في كلية الحقوق عام 1957 وكان ترتيبه الأول على الدفعة، وصدر قرار من الكلية بتعيينه معيدا بها، إلا أن جهاز الأمن الناصري رفض التعيين، فاشتغل بالمحاماة، ورفض الوظيفة الحكومية، عملا بمقولة والده: ” أضيق أبواب الرزق في الوظيفة الحكومية”.

ترشح سيف الإسلام على رأس قائمة إسلامية للمنافسة على مقاعد مجلس النقابة الأربعة والعشرين، ونال ثقة المحامين بما يشبه الإجماع، وحصل على أصوات فاقت ما حصل عليه نقيب المحامين، ونجم المحاماة في مصر والوطن العربي آنذاك –أحمد الخواجه رحمه الله – كما حصدت القائمة الإسلامية التي تصدرها 19 مقعدا من 24 مقعدا هي مقاعد مجلس النقابة, وعندما أعلن عن الانتخابات في عام 2001 ترشح سيف الإسلام من جديد، هو وقائمته، وحصد أعلى الأصوات، ومن الطريف أنه كان منتخبا حتى في الأصوات الباطلة التي لم تحتسب!

سيف الإسلام رجل الدولة

ربما من أهم ما كان يميز الأستاذ سيف الإسلام حسن البنا أنه كان رجل دولة بامتياز، حيث كانت تجمعه صداقة بالعديد من قادة العرب والمسلمين، وقيادات الحركة الإسلامية حول العالم، وأذكر أنني شاركت معه ومع عدد من قيادات الإخوان في عدة لقاءات مع الرئيس الراحل ياسر عرفات عندما كان يزور المركز العام للإخوان المسلمين،

كما رافقته والمستشار المأمون الهضيبي والمهندس إبراهيم شكري رئيس حزب العمل والأستاذ مصطفى كامل مراد رئيس حزب الأحرار والدكتور حسن الحسيني النائب في البرلمان، في زيارة الملك حسين ملك الأردن، ورئيس الحكومة ورئيس البرلمان الأردني عام 1989 لتقديم التهنئة بمناسبة إجراء أول انتخابات برلمانية تعددية بالأردن .

كان رحمه الله محل تقدير واحترام من كل من عرفه، فقد كان عالما أديبا مثقفا، خلوقا سمحا، مهموما بقضايا وطنه وأمته .

أذكر زيارتي الأخيرة له، وحديثه عن مصر وتركيا، وكذلك حديثه عن رئيس الحكومة التركية السيد رجب طيب أردوجان الذي حرص أثناء زيارته لمصر أن يزور الأستاذ سيف الإسلام حسن البنا في منزله، واستمر معه لساعة ونصف الساعة، وتحدث يومها طويلا عن ذكاء وحكمة وتواضع وإخلاص الرئيس أردوجان، كما تحدث كثيرا عن إنجازاته وحزب العدالة والتنمية داخل تركيا وخارجها .

ولقد جمعني القدر منذ فترة قريبة بالعلامة التركي الشيخ الدكتور محمد أمين سراج ( أول من ترجم تفسير ظلال القرآن للشهيد سيد قطب إلى اللغة التركية ) ويومها تحدث شيخنا بحب عن ذكرياته في مصر مع علمائها ودعاتها، وكان ممن ذكرهم باستفاضة أستاذنا سيف الإسلام حسن البنا، كما حكى لي قصة زواجه عندما زاره في بيته بإسطنبول ذات مرة ففاتحه الشيخ في ضرورة الزواج بعد أن انتهت حجج تأخيره بالحرص على زواج كل الشقيقات الكبريات والصغريات، والاطمئنان إلى استقرار حياتهن الاجتماعية.

فقال الأستاذ سيف لشيخه سراج: إذن إختر لي عروسا من تركيا، فرشح له الشيخ إحدى طالباته، وكانت من بيت علم ودين وأدب, فسُر لها سيف الإسلام، وعقد له الشيخ، وعاونه في إتمام الزواج الذي كان سهلا وسريعا وميسرا , وعاد بها إلى القاهرة ليؤسس بيتا طيبا، حيث رزق منها بنتين وولدين .

لقد رحل أستاذنا سيف الإسلام حسن البنا في مناخ قريب من ذلك المناخ الذي استشهد فيه والده رحمهما الله .

رحل الإمام الشهيد, وإخوانه وتلامذته في السجون، ولم يسمح لأحد بتشييع جنازته، وحمل جثمانه رجل وثلاث نساء !

أما نجله سيف الإسلام فقد رحل وعشرات الآلاف من إخوانه لم يتمكنوا من تشييعه، حيث يقبعون خلف الأسوار في سجون الانقلاب العسكري الغاشم، الذي قتل وسجن الآلاف،

ولم تكن أسرة الإمام البنا ببعيد عن بذل التضحية في مواجهة الانقلاب، ولعل الأقدار قد جمعت حفيد المرشد المؤسس، ونجل المرشد الحالي شهيدين في يوم واحد, حيث استشهد الدكتور خالد نجل شقيقة الأستاذ سيف؛ الدكتورة هالة البنا الأستاذة بكلية الطب، والمهندس عمار نجل المرشد العام الدكتور محمد بديع .

استشهد الإثنان أمام مسجد الفتح عقب مذبحة رابعة بيومين!

عزاؤنا أن راحلنا الكبير قضى حياته في خدمة دينه ووطنه وأمته، وقد عاش حرا أبيا، ومات كالأشجار واقفا، لم يفرط أو يهادن .

لم تودعه عيوننا، لكن ودعته القلوب .

لم تلتق أجسادنا التي فرقها الانقلاب، لكن قلوبنا كانت على موعد دائم كل غروب !

رحم الله فقيدنا الكبير .. البرلماني، والنقابي، ورجل الدولة، وعضو مجلس الشورى العام للإخوان المسلمين لعدة دورات .

وعزائي لأسرته الصغيرة، لزوجته الفاضلة، ولكريمتيه لطيفة وسناء، ونجليه حسن وعثمان، ولأخواته المجاهدات الفاضلات الدكتورة هالة حسن البنا وأخواتها .

وعزائي لأسرته الكبيرة؛ جماعة الإخوان المسلمين التي خسرت بفقده خسارة كبيرة ..

رحمه الله وعوض أهله وإخوانه وأمته خيرا.

……………………

وزير الإعلام في حكومة الرئيس مرسي

شاهد أيضاً

وائل قنديل يكتب : عبّاس وغانتس: إجماع فاسد أم انقسام حميد؟

لا ينتعش محمود عبّاس، وتدبّ فيه الحياة والقدرة على استئناف نشاطه في “مقاومة المقاومة” إلا …