عصام حجي يكتب: علماء مصر.. لماذا يخشاهم النظام؟

عبر التاريخ؛ قتلت الحقيقة رجالًا وأحيت الأكاذيب آخرين، لكننا نعلّم أولادنا أن يكونوا من النوع الأول وليس أبدًا الثاني بأي حال من الأحوال.

في يوم 8 يناير/كانون الثاني 1642؛ مات عالم الفلك الإيطالي غاليليو غاليلي -أول من افترض دوران الأرض حول الشمس وأنها ليست مركز الكون- متأثرًا بمرضه داخل السجن، الذي زُج به فيه بحكم من لجنة قضائية عُليا شكّلها بابا الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان، متهمًا إياه بالهراء ونشر الأكاذيب ومعاداة الدولة المتمثلة في كيان الكنيسة آنذاك.

ولم تكن المؤسسة الدينية وحدها التي أدانته، بل إن علماء بارزين مقربين من الكنيسة في ذلك الحين أيدوا هذا الحكم، ووجهوا له لومًا شديدًا قائلين إنه كان في غنى عن هذا الصراع.

وبعد مرور ثلاثة قرون ثبت فيها صدق اعتقاد غاليليو، وتبينت حقيقة الظلم الذي وقع عليه؛ صدرت في عام 1948 أول وثيقة تحمي حرية الرأي العلمي والعلماء من بطش الاستبداد.

قصة غاليليو لم تكن حادثًا منفردًا في أوروبا؛ فقد سبقه إلى نفس المصير آخرون، منهم العالم البولندي كوبرنكيس أول من اقترح أن الشمس هي مركز المجموعة الشمسية، ولم نكن لنعرف حكايتهم لولا أولئك الذين دوّنوا صراعاتهم مع السلطة من أجل العلم.

ولذلك يعتبر الفلكي غاليليو هو مؤسس العلم الحديث بالصورة التي نعرفها اليوم، نتيجة اعتماده على البراهين والأرصاد في الإثبات عوضًا عن المعتقد.

بين العلم والدين
على مر قرون طويلة في عالمنا العربي؛ صارع العلماء ظلام الاستبداد بفكرهم المستنير، وهجر ابن خلدون وعبد الرحمن الكواكبي وكثيرون أمثالهم أوطانهم، ولجؤوا إلى مصر التي كانت واحة للفكر الوسطي المستنير، في عالم كانت فيه الحرية الفكرية لا تزال في مهدها.

وعلى عكس المشهد الأوروبي؛ لم تعرف مصر صراعًا دمويًا بين المؤسستين الدينية والعلمية، وكانت المعرفة جزءًا لا يتجزأ من الهوية المصرية، فكان علماء الدين أول من قاد حراك التغيير العلمي والمجتمعي وحتى السياسي.

ومنذ القرن الخامس؛ حمل الرهبانُ الأقباطُ لواءَ العلوم في أديرتهم وارثين إياها من الحضارة الفرعونية، وأسسوا أحد أقدم الجامعات وهي جامعة الإسكندرية التي كانت منارة العلم في الحضارات القديمة. وظهر العالم القبطي إيرستسراتوس مؤسس علم وظائف الأعضاء، وديموكريتوس مؤسس أصول نظرية الذرة.

وجاء من بعدهم الأزهريون مثل رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده، وغير الأزهريين مثل قاسم أمين؛ الذين كانوا أول من زجّ بمفاهيم حديثة عن التعليم والمرأة اصطدمت بواقع مجتمع محافظ. وكانت مكانة العلماء لدى الجموع والثقة التي وُضعت فيهم حماية لهم من تصادم آرائهم، سواء بالواقع آنذاك أو بالسلطة.

العقول المسجونة
ومن سخرية القدر أن تكون مصر اليوم هي المكان الذي يهجره العلماء، لمجرد مطالبتهم بأن يكون العلم أساسًا لهويتهم وطريقًا لبناء مستقبل الأمة.

ومع تراجع المشهد الفكري بحلول أنظمة مستبدة؛ بدأ عصر جديد من الصراع غير المسبوق في مصر، بين الدولة العسكرية وبين العلماء، سواء كان هذا الصراع متعلقًا بعلماء الدين مثل الشيخ يوسف القرضاوي، أو بعلماء العلوم الحديثة مثل الدكتور أحمد زويل؛ فكان أن نُفي الأول ومُنع الثاني من حقه في الترشح لرئاسة البلاد.

ولعل الصراع الدائم بين العلم والاستبداد يكمن في محاربة الأول للطاعات المطلقة التي هي أساس وجود الثاني. وتبْني الطاعةُ المطلقة عقلًا سجينًا فاقدًا للقدرة على الإبداع، مما يجعل الأمّة تفقد القدرة على التطور، وهو ما يفسر حالة التراجع الكامل التي يعيشها المجتمع المصري منذ عقود.

ويرى العلماء أن المنطق والتجربة والبراهين هي أساس القرار الرشيد، بينما يرى المستبد دومًا أن الولاء والعاطفة هما أساس المواطنة، فتختفي الكتب والمكتبات وتعم الأغاني الوطنية يمينًا وشمالًا لتسرد أمجادًا واهية من نسج الخيال، في دولة أنهك الفقرُ والمرض والجهل كلَّ حي فيها.

ويتفق العلم والدين في مصر على أن الشورى هي أساس الطاعة، بينما يرى الاستبداد أن رجاله ذوو ملكة خاصة، يرون ما لا يراه الآخرون، ويقررون ويبتّون في مصائر الناس بالارتجال، فتهدر الأموال وتضيع آمال الجموع في غد أفضل. ولا تأتي طاعة المواطن للقوانين في المجتمع المستنير خوفًا من بطش العقاب، ولكن لإحساسه بأن رأيه جزء من سن هذه القوانين.

العالم والسلطة
في العقود الأخيرة؛ رسمت مصرُ صورةَ العالِم المثالي كإنسان معزول في معمله، منكبًّا طوال الوقت على عِلمه، مطيعًا لقادته، والأهم من ذلك أن يكون غير مكترث أبدًا بالتغيرات المجتمعية المحيطة به؛ وهذه الشخصية تُعرف بـ”العالِم الوطني”.

لقد قامت السلطة بخلق صورة هزلية من خلال أعمال درامية وسينمائية، ونشر أخبار كاذبة ومضللة، تبيِّن صورة العالِم كأنه إنسان يهذي، بهدف إفقاد الجموع الثقة في العلم والعلماء.

وليس ذلك فحسب؛ بل تعمدت تكريم وإعلاء قلة من العلماء الذين تعففوا عن محاربة الجهل والاستبداد المتفشي والمستشري في أنحاء الأمة، ووصفتهم بأنهم علماء متخصصون يركزون في عملهم و”ملهمش في السياسة”. وهي كلمة حق يراد بها أبشع باطل بتنازل المتعلمين عن دورهم في التغيير، فلا يزعج هؤلاء أن تتراكم الأبحاث في الخزائن المترَبة داخل أروقة المراكز البحثية، بينما يعم الجهل كل أنحاء البلاد.

ويتعمد كثيرون تناسي دور العلماء في بناء الأمم؛ فقد لا يعرف غالبية الناس أن أحد واضعي الدستور الأميركي ومؤسسي الدولة، والمسمى الأب الروحي لأميركا، والذي تحمل العملة الورقية من فئة مئة دولار صورته؛ هو عالم الكهرباء بنجامين فرانكلين.

كما أن مؤسس نهضة الهند الحديثة هو عِالم الصواريخ عبد الكلام، ورئيسة الحكومة الألمانية هي الكيميائية أنغيلا ميركل، والرئيس التونسي المنتخب حديثا قيس سعيّد أستاذ جامعي، ورئيس الولايات المتحدة الأسبق جيمي كارتر باحث في الطاقة النووية، وبابا الفاتيكان فرانسيس كيميائي متخصص، وبابا الإسكندرية وبطريرك الكنيسة القبطية الأرثوذكسية الأنبا تواضروس هو في الأساس صيدلي، وهناك مئات غيرهم عبر العصور.

جاء حصول الدكتور أحمد زويل على جائزة نوبل ليزيد الخوف المتنامي لدى السلطة من العلماء؛ فسارع الإعلام لاغتنام الفرصة للمزيد من تهميش العلماء بخلق مفهوم آخر وهو “العالِم النجم”.

ولم يكن أبدًا الغرض من وراء هذا اللقب الاحتفاء بالعلم أو جعله قدوة، بل الهدف كان الاكتفاء بنجاح فردي خارجي، وأن يغني ذلك عن واجب الدولة في خلق نجاح جماعي داخلي بتطوير المنظومة التعليمية والبحثية. وحينما حاول زويل نقل نجاحه إلى داخل مصر لقي من العداء والتشويه ما لم يره ألدّ أعداء هذه الأمة.

لماذا يخشى الحكام العلماء؟

تختص الديمقراطيات الحديثة بفصل الدولة عن الدين، وتختص مصر تحت الحكم العسكري بفصل الدولة عن العلم؛ إذ يرى الحاكم ونظامه أن إدارة شؤون البلاد لا تمت للعلم بصلة، وأن العشوائية التي نعيشها في شوارعنا هي علم له رجاله وإرث تجب المحافظة عليه، وأن مقترحات العلماء ساذجة وتهدف لتدمير أمن واستقرار البلاد.

ويبقى السؤال: أي بلاد هذه التي يكون الجهلُ فيها بالحقائق أساسَ الاستقرار، ويكون العلمُ فيها أساسَ التوتر؟ ترى الأنظمة المستبدة أن الجامعات والمراكز البحثية هي معقل المعارضين للسلطة؛ ولذلك تتعمد إتلاف هذه المؤسسات إداريًا وماليًا وفكريًا، حتى تصبح مؤسسات صورية تعيش على الإعانات الخارجية، أو من بقايا الميزانية السنوية للدولة في أحسن الظروف، وهذا هو السبب الأساسي في التراجع المستمر لمكانة الجامعات المصرية.

ويرى المجتمع المصري أن العلماء أقرب إليه من حكامه؛ فالعلماء قدوة والعلم هو أساس الهوية الإسلامية والقبطية لمصر، وكل أسرة تطمح إلى أن يكون ابنها متعلمًا أو عالِمًا مثل أحمد زويل ومجدي يعقوب، ولا تتمنى بالضرورة أن يكون ابنها مسؤولًا أمنيا أو سياسيا أو غيرهما في دوائر النفوذ.

ولا عجب إذن أن يكون العلماء اليوم على رأس قائمة من يخشى الحكامُ الطغاة منافستَهم لهم على كراسيهم وعروشهم، فبعد إزاحة رجال الدين أصبح الحاكم المستبد في حاجة إلى خطة جديدة لإبعاد رجال العلم عن المشهد.

وهكذا كان الحبس لأساتذة الجامعات في كل التخصصات من الجيولوجيا إلى السياسة والاقتصاد، مثل يحيى القزاز وحسن نافعة وحازم حسني وطارق الشيخ ومئات غيرهم، أضف إلى ذلك النفي والتشويه في وسائل الإعلام، وإخفاء المقالات والحوارات السابقة على الإنترنت لكل العلماء المطالبين بالإصلاح.

واليوم إذا ما بحثت في الإنترنت عن أي من أسماء العلماء المطالِبين بالإصلاح فلن تجد إلا مقالات تصفهم بالخيانة والعمالة، أو بسوء الخلق والرشوة، وغيرها من التهم المقصود بها التقليل من شأنهم وتحطيم قيمتهم.

بين العلم والاستبداد حرب لن تنتهي، حسمها التاريخ في كل بقاع الأرض، وقد يكون العلماء اليوم في مصر قلة منعزلة ومنهَكة ومهمشة، لكن عبر التاريخ أطاحت هذه القلة -في أضعف حالاتها- بقوى شرسة تخطتها بكل المقاييس، لأنك وإن كنت تستطيع أن تقتل أعداءك، فإنك لن تستطيع أبدًا قتل حلم الإنسان الفطري وأمله في غد أفضل، والعلم وحده هو ما يجعل هذا الحلم حقيقة.

إن معاداة العلم هي في جوهرها معاداة للحقيقة، وهروب إلى عالم افتراضي تُبنى فيه أمجاد من نسج الخيال، لنفيق منها على أصوت طبول الحرب ودعوات الكراهية في كل أنحاء الأمة.

شاهد أيضاً

وائل قنديل يكتب : عبّاس وغانتس: إجماع فاسد أم انقسام حميد؟

لا ينتعش محمود عبّاس، وتدبّ فيه الحياة والقدرة على استئناف نشاطه في “مقاومة المقاومة” إلا …