قطب العربي يكتب :ماذا تبقى من ثورة يناير؟

ها هي الذكرى التاسعة لانطلاقة ثورة 25 يناير تهل علينا، ومع هذه الذكرى فإن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هل ماتت ثورة يناير قبل أن تكمل عشريتها الأولى؟ وماذا تبقى منها بعد إنقلاب الثورة المضادة عليها وعلى مكتسباتها؟.
ثمة من يقول إن الثورة ماتت وشبعت موتا، وإن ما تبقى منها مجرد الذكرى التي سعى نظام السيسي للإجهاز عليها هذا العام بالتسويق عبر أذرعه الإعلامية لتخصيص يوم 25 يناير للاحتفال بعيد الشرطة فقط ، كما يستشهد هذا البعض بأن رموزا كانت محسوبة على يناير كفرت بها وباعت نفسها لأعدائها، أو اختفت عن الأنظار ولم تحرك ساكنا في مواجهة الهجوم عليها، وأن النظام القائم عبر أذرعه الإعلامية والفنية والسياسية نجح في تشويه الثورة لدى الرأي العام بحيث أصبح مجرد ذكرها كفيلًا بكيل السباب لها.

والحقيقة أن جزءا من ذلك صحيح، فـ”الزن على الأذن أمر من السحر” كما يقولون، والإعلام المصري الخاضع لهيمنة السلطة ومخابراتها ليس لديه مهمة الآن سوى تشويه الثورة دون السماح لأي رأي داعم لها بالظهور، كما أن حماقات بعض منتسبي الثورة ساهمت في صناعة وعي سلبي ضدها، لكن ذلك على كل حال جانب واحد من الصورة، أما الجانب الآخر فهو العكس تماما.

حالة الرعب

المشاهد التي تشي بموت الثورة هي نفسها التي تؤكد بقاءها، خذ عندك مثلا حالة الرعب التي تنتاب النظام وتدفعه لتمديد الطوارئ عاما بعد عام منذ الإنقلاب خوفا من حراك المصريين وليس أي شيء آخر) أحدث تمديد تم قبل يومين) ، ومنع التظاهر بالقوة رغم النص الدستوري، والقبض العشوائي على المواطنين وتفتيش هواتفهم، والاستعدادات الأمنية المكثفة التي لا تقتصر على الشرطة بل تتعداها إلى تحريك قوات عسكرية عبر كباري وشوارع القاهرة هي دليل على الخوف ليس من عدو خارجي ولكن من الشعب المصري، براهين أخرى على الخوف،  وتحذيرات رأس النظام المتكررة أنه لن يسمح بتكرار ما حدث في يناير 2011 لا يحتمل تفسيرا سوى الخوف من شبح الثورة، الذي ظل محفورا في عقله، مذكرا إياه  بصوت الشعب الذي تربى السيسي على امتهانه، واعتباره مجرد رعايا عليها أن تسمع وتطيع للسادة الضباط فقط، ( ومن منا لا يتذكر مكالمة احد أمناء الشرطة لمدير أمن البحيرة ..الشعب ركب ياباشا خلاص) لقد كانت تلك الجملة تلخيصا للتطور المفاجئ الذي أخذ السلطة بكل أركانها على حين غرة، فاضطر جزء منها وهو القوات المسلحة لمسايرة الوضع تمهيدا للالتفاف عليه وهو ما تم لاحقا.

التعديلات التي تجري في ميدان التحرير والتي ظاهرها تجميله ولكن باطنها هو خنقه، وجعله غير ملائم لأي اعتصامات أو مظاهرات مليونيه كتلك التي شهدتها أيام الثورة هو نموذج آخر لهلع النظام، وهو هنا يستنسخ ما تم في دوار اللؤلؤة في البحرين الذي احتضن في العام 2011 مظاهرات ضخمة كادت تطيح بحكم آل خليفة، لكن القوات السعودية تدخلت لفض الإعتصام بالقوة وبعدها تم الشروع في إعادة تقسيم الميدان بما لا يسمح بتجمع أعداد كبيرة مرة أخرى.

الثورة باقية:

ثورة يناير باقية في نفوس أبنائها وفي نفوس أعدائها على حد سواء ولكن بأشكال مختلفة، فهي بالنبسة لابنائها لا تزال مصدر الإلهام، ودليل القدرة على التغيير، لقد كانت هناك قناعة راسخة لدى غالبية المصريين أن تغيير نظام مبارك هو أمر مستحيل، ولا داعي للتفكير فيه، وكانت أكبر أمنية هي إجراء تعديلات وإصلاحات من داخل النظام، ولو أن مبارك وافق على إقالة حبيب العادلي وزير الداخلية في الأيام الأولى للثورة لعاد الثوار أو غالبيتهم إلى منازلهم، ولربما كالوا المديح لمبارك، لكن عناده قدم طاقة جديدة لشحنة الغضب التي أصرت على خلعه هو شخصيا، وكان لها ما أرادت، والثورة وشهورها الثلاثين مثلت لأبنائها وأنصارها تجربة ثرية في التنعم بالحرية والعدالة والكرامة، فكانت أول انتخابات حرة يشارك فيها المصريون ويصطفون طوابير تمتد بمئات أو بآلاف الأمتار أمام اللجان في انتخابات البرلمان أو الاستفتاءات أو الانتخابات الرئاسية الحرة، وكان أول رئيس مدني منتخب بعد ستة عقود من الحكم العسكري، وكان التظاهر الحر دون إذن مسبق، وكان التعامل الكريم في أقسام الشرطة مع المواطنين، وكان الإحترام الذي يحيط بالمصري في كل مكان داخل وطنه وخارجه، وكان الإنبهار الدولي بما حققه المصريون، لقد مثلت شهور الثورة الثلاثين نموذجا ملهما قابلا للتكرار، ولكنه يحتاج عند تكراره لدفع ثمن كبير، تماما كما يحدث في العروض الترويجية المجانية لمنتج ما لمدة محددة ثم يكون عليك أن تدفع إذا أردت اقتناء هذه السلعة بشكل دائم، وهو ما يحدث حاليا بالفعل حيث يدفع المصريون الآن ثمن الحصول بشكل دائم على الحرية والكرامة والعدالة، فلم تتوقف مظاهراتهم على مدى السنوات الست التالية للانقلاب على الثورة، حتى إن خفتت وتراجعت إلى حواري وشوارع داخلية، وحتى إن نقلت مجال احتجاجها إلى صفحات التواصل االاجتماعي تجنبا للرصاص الحي، كما أن صوت الثورة لا يزال قائما عبر بعض المنابر الإعلامية التي أفلتت من قبضة النظام حتى وإن كانت تبث من خارج مصر إلا أن صوتها يصل إلى الداخل المصري محملا بعطر الثورة ونبوءاتها، ومذكرا بمكاسبها وأيامها، ومبشرا بعودتها.

وثورة يناير باقية في نفوس خصومها كشبح يلاحقهم في صحوهم ومنامهم، فيفزعون منه عند كل دعوة للتظاهر، أو عند كل ذكر للثورة، أو لأحد رموزها، ولذلك فإن هؤلاء الخصوم يسابقون الزمن للقضاء على أي رائحة لثورة يناير، ويعتقلون كل من ينتمي لها، ويسعون لمحو كل آثارها.

التجربة الملهمة:

ولكن رغم كل الجهود التي يبذلها أعداء الثورة لمحو آثارها فإن هناك من الآثار مالا يمكن محوه، ومن ذلك تلك التجربة الملهمة خلال الشهور الثلاثين للثورة والتي ذاق خلالها المصريون طعم الحرية والكرامة والعدالة، ومنها أن الثورة أثبتت قدرة المصريين على التغيير، وأن كل ما يروجه النظام عن نفسه ليس هو الصحيح، فقد كان نظام مبارك يشيع مظاهر قوته، واستحالة تغييره، ومع ذلك تمكن المصريون من تغييره، ودخل مبارك القفص الحديدي حتى وإن كان بشكل صوري، وهاهو الآن يجلس في بيته مع أبنائه وليس في القصر الرئاسي، وما حدث مع مبارك ليس مستحيلا حدوثه مع السيسي ورجاله.

لقد تركت لنا الثورة خارطة طريق للتغيير إذا التزمنا بها نجحنا في مسعانا، وهذه الخارطة تقوم بالأساس على امتلاك إرادة التغيير، والاتفاق على هدف التغيير، ورص الصفوف الوطنية الممثلة لكل فئات المجتمع خلف هذا الهدف وإنكار المصالح الحزبية الضيقة، وترك الخلافات الفرعية، وباختصار العودة إلى شكل ميدان التحرير وليس بالضرورة إلى أرض الميدان، فميدان الثورة الحقيقي هو النفوس الحرة وليس قطعا من أراضٍ هنا او هناك.

شاهد أيضاً

وائل قنديل يكتب : عبّاس وغانتس: إجماع فاسد أم انقسام حميد؟

لا ينتعش محمود عبّاس، وتدبّ فيه الحياة والقدرة على استئناف نشاطه في “مقاومة المقاومة” إلا …