هشام جعفر يكتب : الديمقراطية في زمن الوباء: من الحرب على الإرهاب إلى الحرب على الفيروس

تعلمنا تجارب الحرب على الإرهاب أنها كانت مرتبطة بالعصف بمزيد من الحقوق والحريات، وتقييد كثير من حرية الرأي والتعبير، وفرض كثير من المراقبات على العباد والبلاد.

ولكن كيف تثري الحرب على «كورونا» خبرة النزوع التسلطي الكامن في الدولة الحديثة وفي جميع أنواع النظم السياسية، ديمقراطية كانت أو استبدادية؟ فهناك خطر حقيقي أن كثيرًا من الدول ستستخدم الفيروس كغطاء لإنشاء أشكال أكثر استدامة واتساعًا لصلاحيات السلطة التنفيذية، وغزوًا للخصوصية وهيمنة على المجتمع، ما يثير المخاوف بشأن الحريات عمومًا.

في علاقة «كورونا» بالديمقراطية يمكن الإشارة إلى ثلاث ملاحظات أولية:

1- لا علاقة لطبيعة النظم السياسية بالنجاح في إدارة الأزمة؛ فهناك نظم ديمقراطية (مثل ألمانيا وكوريا الجنوبية) وأخري تسلطية (مثل الصين)، قد نجحت -حتى الآن- في التعامل مع تفشي الوباء وإدارة المسائل المتعلقة به.

فلا الديمقراطيون ولا التسلطيون أفضل في التعامل مع الجائحة، ويظل التحدي الأكبر هو معالجة التداعيات.

2- الديمقراطية قبل الفيروس كانت بالفعل تحت الحصار في جميع أنحاء العالم. فمن بين 41 دولة ديمقراطية مستقرة من 1985 – 2005؛ وفقًا لمؤشرات بيت الحرية، فإن 25 دولة منهم شهدت تراجعًا وانخفاضًا في الحرية في السنوات الخمس الماضية فقط.

وبرغم ذلك، فإننا بتنا نشهد ما أطلق عليه البعض: «استبداد الفيروسات التاجية»، فقد قامت 47 دولة ومنظمة بتأجيل الانتخابات الوطنية ودون الوطنية بسبب الوباء، واستخدم الوباء للتحلل من بقايا الديمقراطية في أنظمة كثيرة.

3- إن الديناميكيات المتغيرة بسرعة على الأرض، إلى جانب حالة عدم اليقين، يجعل أي تقييم للآثار طويلة المدى للفيروس أمرًا سابقًا لأوانه في هذه المرحلة، ومع ذلك يمكن الإشارة إلى انحسار الديمقراطية في العقدين اللذين اعقبا وباء الإنفلونزا 1918- 19191، أي في أعقاب الحرب العالمية الأولى مباشرة. صحيح أن ذلك لم يكن بسبب الفيروس وحده، لكنه لعب دور المسرع والمحفز للعوامل التي خلفتها الحرب.

وهناك عدد من الاعتبارات والاتجاهات التي تستدعي الانتباه حول المسألة الديمقراطية، أهمها:

أولًا: طبيعة النفوذ والقوة في النظام الدولي ما بعد «كورونا»: كانت هناك تحولات مهمة في ميزان القوة والنفوذ العالمي قبل الفيروس، مما دفع إلى القول بنهاية نظام أحادية القطب الأمريكي وعودة سياسات القوى العظمى. بالطبع ليس هناك مجالًا للنقاش حول طبيعة هذا التحول ومظاهره، ولا تأثيراته علينا، إلا أنه يمكن ملاحظة عدة مظاهر متشابكة: الجائحة تستخدم من قبل القوى العظمى، خاصة الصين والولايات المتحدة لتأكيد النفوذ في النظام الدولي ما بعد كورونا، لذا فإنه من الآن يتم الترويج للنموذج الصيني -الذي لا يمكن وصمه إلا بكونه تسلطيًا- في التعامل مع الجائحة. وقد اتبعت الصين استراتيجية متعددة المستويات لزيادة نفوذها في النظام الدولي: تقديم المساعدات الطبية لـ 84 دولة ومنها دول أوروبية، الهجوم على محاولة وصمها بإطلاق اسم الفيروس عليها (الفيروس الصيني او فيروس أوهان)، تصدير احتوائها للوباء وعودة مصانعها للعمل.

ويجري هذا في ظل بروز الولايات المتحدة وهي غير قادرة على حماية شعبها مع عدم رغبة ترامب في قيادة التعامل الدولي في مواجهة الفيروس، وتصاعد الحديث عن أن مستقبل الاتحاد الأوروبي على المحك.

ويرتبط بذلك احتمال كبير بانكفاء الدول الديمقراطية على ذاتها سواء تحت ضغوط القومية المتنامية أو دعاوى الولايات المتحدة أولًا، أو رغبة في التعامل ومواجهة التحديات المعقدة التي تفرضها مرحلة ما بعد «كورونا».

الخلاصة، أننا سنشهد حضورًا متناميًا لنفوذ وقوة النظم التسلطية في النظام الدولي، وقد علمتنا الخبرة أنها ستسعى بقوة إلى إعادة تشكيل هذا النظام وفقًا لمصالحها وقيمها، التي لن تكون الديمقراطية وحقوق الإنسان من أولوياتها، في الوقت الذي سنشهد فيه تراجعًا للنظم الديمقراطية أو الانكفاء على ذاتها أو انسحابًا من قيادة النظام الدولي.

ثانيا: زيادة الطلب علي تغول السلطة: في استطلاع للرأي أجرته مؤسسة جالوب في مارس الماضي شمل 28 دولة تنوعت بين بلدان ديمقراطية مستقرة وأخرى غيرها، وافق 74% من المبحوثين على التضحية ببعض حقوقهم الانسانية إذا كان ذلك مفيدًا لمنع انتشار الفيروس.

اتخذ التعامل مع الجائحة مسارات عدة مثل: تعاظم دور الحكومات، فرض قوانين الطوارئ، سن قوانين تزيد من صلاحيات السلطة التنفيذية وتحررها من مراقبة اختصاصاتها، زيادة الرقابة خاصة الرقمية والتدخل في حياة الأفراد والمجتمعات وانتهاك خصوصياتهم، تقييد حرية التعبير.. إلخ.

وعادة ما يجري ذلك في الأزمات وبشكل دائم ومستمر من كل الأنظمة ديمقراطية واستبدادية ،لكن المشكلة أنه يتم برضاء شعبي متسع بما يضفي عليه الشرعية؛ فعندما يجتاح الوباء العالم، فإنه يحمل معه تهديدًا خطيرًا وبنفس القدر لمظاهر الحرية لأنه يثير غرائز الخوف عند الناس، كما أن هناك خطرًا حقيقيًا في استمرار هذه الإجراءات بعد انقضاء الوباء. فكما أظهرت خبرة الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر أن أنظمة الرقابة التي يتم إنشاؤها استجابة لأزمة معينة، تميل للاستمرارية لفترة طويلة تتجاوز فترة الطوارئ حتى في الديمقراطيات الراسخة.

ومن الملاحظ أن كثيرًا من الإجراءات التي تحد من حرية التعبير لا علاقة لها بالصحة العامة بقدر ما لها علاقة بحماية السمعة السياسية والمؤسسية، ومحاولة السيطرة على الروايات الأخرى غير الرسمية لتفشي الوباء، برغم أن الحد من حرية التعبير يؤدي إلى إعاقة احتواء الوباء، ويغيب فهم الأزمة، وكيفية منع تكرارها، ويمنع الجهود المبذولة لمحاسبة المسؤولين عن إدارتها.

وليس هناك ما يضمن أن الضغط العام أو السياسي سيكون قويًا بما يكفي لضمان ألا تتجاوز الإجراءات الصارمة التي تتخذها الحكومات ضد الحريات زمن الوباء، وهناك خوف أن تتحول الحرب ضد الفيروس إلى حرب دائمة إلى الأبد حيث تصبح انتهاكات الخصوصية والرقابة شق دائم على أساس أن الفيروس وخلفائه المحتملين لا يمكن هزيمتهم بالكامل.

وأخيرًا، فإن هناك ملاحظة جديرة بالمتابعة في المستقبل وهي تلك التي تخص تعاظم دور «الأون لاين» في الأزمة، فقد أدت إجراءات العزل الاجتماعي إلى زيادة دوره وتعاظم فاعليته وتمدده في مساحات متسعة جديدة مع إعادة صياغة أدواره، وهذا يمكن أن يمثل إمكانية كبيرة للرقابة والضغط على السلطات المختلفة، خاصة أنه من الملاحظ أنه استطاع أن يبني شبكات ومجتمعات متخيلة -أي في السايبر- لكنها يمكن أن تتحول إلى مجتمعات حقيقية في المستقبل تقوي المجتمع إزاء السلطة.

ثالثًا: نظرية الغباء المهيمن: فكما يرى البعض أنه عندما يكون الغباء مهيمنًا والمهيمن غبيًا، تصبح الأنظمة غير مستقرة وعرضة للأزمات. فاحتكار السلطة لن يمنع من الأوبئة وانتشارها والتداعيات المترتبة عليها بما يضع السلطات في مأزق عدم قدرتها على حماية الأنفس والأرواح التي هي أهم ما يملك البشر في حياتهم الدنيا، فالتحدي الرئيسي ينشأ من انهيار الأنظمة الحاكمة نتيجة عدم القدرة على إدارة التفشي والتعامل مع الأعباء والتداعيات المترتبة على الوباء، ومن الفوضى التي تلي ذلك، فالجمع بين فيروس قاتل وقيادة غير كفؤة وتخطيط غير مناسب وإدارة غير ملائمة يضع شرعية أي نظام على المحك.

تعلمنا العلوم السياسية أنه في الأزمات الكبرى من هذا القبيل فإن إمكانية الصراع الأهلي والثورة تصير مرتفعة حين يصطدم الحراك الذي يتغذى من تداعيات الأزمة مع الحكومات والسلطات القائمة بما يؤدي إلى انهيار قدرة الدولة على التعامل مع المظالم، خاصة أن حلقات الأزمة اتسعت لتطال فئات تصورت أنها محصنة ضد السياسات النيوليبرالية الجارية.

الفيروس يمكن أن يدفعنا إلى الحافة بطرق مختلفة: سوء الإدارة، القيادة المعوقة، التأثير على أجهزة الدولة وخاصة الأمنية والعسكرية، إرهاق الحكومات، وهنا ستكون الظروف مناسبة/جاهزة للغضب الجماعي من أسفل، وقد يدفع ذلك بعض الأنظمة الذكية إلى احتواء ذلك بإجراءات ديمقراطية، ولكن في أنظمة أخرى فإنه يؤدي إلى زيادة الطلب على الفاشية والغوغائية وتقديم أكباش فداء متعددة للأزمة (المهاجرون -الأشرار -المعارضون).

وأخيرًا فإن الوباء يضعف الحكومات كما يضعف معارضتها أيضًا، إلا أنه في النظم الديمقراطية المستقرة يعطي قوة دفع لقوى سياسية متعددة تتراوح بين اليسار والخضر من جهة والقوى القومية واليمين من الجهة الأخرى.

شاهد أيضاً

وائل قنديل يكتب : عبّاس وغانتس: إجماع فاسد أم انقسام حميد؟

لا ينتعش محمود عبّاس، وتدبّ فيه الحياة والقدرة على استئناف نشاطه في “مقاومة المقاومة” إلا …