هل خالف قادة الإخوان رأي البنا باعتماد خيار السلمية؟

 كان طرح الإمام البنا في إصلاح الحكم يعتمد على سعي الجماعة الحثيث ومضيها قدما في تحقيق تغيير اجتماعي عميق الجذور وواسع المدى منطلقا من الهوية الإسلامية، يكون  الأساس في عدتها لإنفاذ عملية الإصلاح السياسي المنشود.

أمّا كيف ستقوم بتوظيف ثمار هذا التغيير الاجتماعي المتراكم لدعم عملية الإصلاح السياسي، فقد اعتمد البنا عدة مسارات كان علي رأسها النضال الدستوري، دون أن يغلق الباب أمام مسار استخدام القوة إذا لم يكن هناك بد من استخدامه، وتوافرت موارد القوة، وامكن الالتزام بالضوابط، وتم الاطمئنان للمآلات.

 وبعد أن عادت الجماعة لممارسة نشاطها في سبعينيات القرن الماضي استفادت قيادتها من الخبرات التي تولدت لديها – بعد التجارب الصعبة التي خاضتها الجماعة – أن هناك عوائق حقيقية في بنية الحالة المصرية – وربما غيرها من المجتمعات التي انتقلت لطور الحداثة – تحول دون أن تتوافر للجماعة – أو للجماعات الأهلية على وجه العموم – موارد القوة التي تؤهلها لمواجهة الحكام المتترسين بالدولة وأجهزتها، وبالطبع فقد انعكس هذا الخلل في موازين القوى تلقائيا على إمكانية الالتزام بالضوابط التي حددها الإمام البنا لاستخدام القوة، وعلى الاطمئنان لمآلات هذا الاستخدام. وعلى ذات الدرجة من الأهمية انتبهت هذه القيادات إلى أن هذه الفجوة تتجه للاتساع – وليس الانكماش – بمضي الزمن لعوامل عديدة منها تغول الدولة الحديثة وهيمنتها على مقدرات المجتمعات، ومنها تمدد دور أجهزة القمع وتفلتها من أية قيم أو قيود,  وتقدم القدرات التكنولوجية الداعمة لها، ومنها نمط الحياة المدنية الحديثة, البعيد عن الاحتكاك بموارد القوة المادية سواء من حيث الحيازة أو من حيث اكتساب مهارات الاستخدام …  إلخ, وأن فرصة استخدام القوة – إن لاحت – فسيكون ذلك من خلال مشهد لا يتفق في عنفه وفوضاه – وربما في توحشه أيضا – مع جماعة الإخوان المسلمين بمشروعها وقيمها، وبتكوين أفرادها الثقافي والاجتماعي، وبعلاقاتها المتشابكة داخليا وخارجيا .

وفي ظل تأثير تلك المستجدات لم يكن من الوارد أن تلجأ الجماعة إلى استخدام القوة في المستقبل المنظور على الأقل، ومن ثم لم يكن من الحكمة أن تظل الجماعة على خطابها القديم  من “أنها سوف تستخدم القوه عندما يتوافر …”, فهي بذلك تُشوش على نفسها دون مقتضى لذلك, خاصة بعد أن تحول موقف أنظمة الحكم من الجماعة إلى حالة من التربص والريبة لم تكن تعاني منها  في عصر الإمام البنا, ومن ثم فقد كان اتجاه قيادة الجماعة بعد عودتها لنشاطها في الإعلان عن أنها لن تستخدم القوة, وستنحاز للسلمية لا يمثل مخالفة لاجتهاد الإمام المؤسس – وهي مخالفة لاحرج فيها إن وقعت – بل هو إعمال للشروط والضوابط التي نوه عنها الإمام، وهذا ما فعله قادة الجماعة الكرام علي مدار العقود الأربعة الماضية. ويشرح الأستاذ ياسر الزعاترة كيف تطورت الأوضاع مع قيادات الجماعة في العهود التالية للإمام البنا ( الذين جاؤوا بعد الإمام البنا لم يضعوا قوانين حدية لحركة التغيير بل سددوا وقاربوا بناءً علي شروط الزمان والمكان ..غير أن التجربة قد دفعهتم في اتجاه أقرب إلى حسم الخيار منه إلى التردد, فخلال العقود التالية ثبت أن تحدي الدولة من خلال تنظيم أو جماعة هو أقرب للعبث منه إلى العقل, وذلك أن تطور الدولة الحديثة قد جعل الشق الأمني فيها هو الغالب, ما جعل تحديها أمرا عبثيا، ولا سيما وأن الشروط الإقليمية والدولية تساندها على نحو واضح من زاوية أن قوة أصولية خطيرة هي المنافس)[1]

تنظير لمسألة ” لا جدوى من استخدام العنف”

وعليه فإن موقف جماعة الإخوان قد استقر – وفق الأستاذ الزعاترة –  على رفض استخدام العنف تجاه النظم الحاكمة – من مدخل عدم الجدوى – بناءً على الحيثيات التالية: ( أخذ الإخوان المسلمون في المرحلة الأخيرة في صياغة تنظير متماسك لمسألة ” لا جدوى من استخدام العنف” ويقوم هذا التنظير على جملة من القضايا؛ من أهمها:

– قوة الدولة الحديثة من حيث الجيش، والأجهزة الأمنية، وثورة أجهزة التجسس، وغياب إمكانية العمل السري .

– الآثار المدمرة للعنف على بنية المجتمع وتماسكه)[2]

والحقيقة, فإنه يمكن تفهم ما قد تثيره هذه الاختيارات السلمية من ضيق للصدور من حركة إسلامية ترفع راية الجهاد، غير أن هذه المشاعر السلبية إنما تنطلق من فهم يحتاج لمراجعة عن حقيقة المواجهة التي يتعين علينا خوضها في ظل المستجدات لتغيير الواقع الذي نعيشه, ولعل أقرب مثال لتوضيح ما نريد يقفز بنا من حيث الزمان والمكان إلى الحالة التركية المعاصرة, فقد كان من الممكن لأصحاب التوجه الإسلامي هناك أن يندفعوا في استخدام العنف لمواجهة الانقلابات العسكرية التي بطشت بوجودهم السياسي، واعتقلت منهم الآلاف, حتي وصل الأمر – إثر أحد هذه الانقلابات – إلى إعدام عدنان مندريس رئيس الوزراء ذي التوجه الإسلامي وبعض القيادات, ولا نظن أن أحدا يجادل في المآلات المخيفة التي كان من الممكن أن يجر إليها استخدام العنف لمواجهة ذلك العدوان السافر وقتها, غير أن القوم سلكوا مسارا مختلفا, وخاضوا مواجهات متتالية من نوع آخر حققت لهم أهدافهم، وأزاحت الجيش عن التحكم في مقدرات البلاد، حتى انتهوا إلى محاكمة من بقي على قيد الحياة من العسكريين الذين قاموا بتلك الانقلابات. ولا نجادل بالطبع في أن مشروعنا مختلف عن مشروعهم، وأن الحال هنا غير الحال هناك, ولكن ما أردنا الاستدلال عليه هو أن الواقع المحيط بجماعتنا قد تغير بعد مضي هذه العقود الممتدة، وأن المسارات التي كانت متاحة بالأمس أصبح لا جدوى من طرقها اليوم، وأن صورة المواجهات التي كنا نتشوق لخوضها يوما ما قد تجاوزها الزمن, ولكن أهل الاجتهاد والجهاد يملكون دائما أن يشقوا مسارات جديدة, ويعدوا لمواجهات رشيدة, تناسب الزمان، وتحافظ علي الهدف، وتتجنب عثرات الطريق.

……………………

[1]   )  ياسر الزعاترة  –  مفهوم المقاومة عند الإخوان المسلمين  –  الجزيره نت  3 – 10 – 2004

[2]  )  ياسر الزعاترة   –  أزمة الجماعة الإسلامية … الفتوى أم الجدوى –  الحياة  –  21 – 2 – 1998

شاهد أيضاً

بعد موقفهما تجاه ليبيا.. محاولات لبث الفتنة بين تركيا وتونس

منذ أن بدأ الجنرال الانقلابي خليفة حفتر محاولة احتلال طرابلس في إبريل الماضي، لم تتوقف …