وائل قنديل يكتب : الجنرال يبصق على دستوره

قال عبد الفتاح السيسي، وهو يحتفل بتدشين استراتيجيته لحقوق الإنسان والحريات إن ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 كانت بمثابة إعلان شهادة وفاة للدولة المصرية، ساخرًا من شعاراتها المتضمنّة العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
سبق للسيسي أن عبّر عن كراهيته العميقة، المشوبة بالذعر، لثورة يناير، التي لولاها لما سمع أحد بشخصٍ اسمه عبد الفتاح السيسي، لكنه هذه المرّة ينتقل من الكراهية الشخصية إلى الاحتقار والإنكار الكاملين لثورةٍ لطالما نافقها وتزلّف إليها في عديد المواقف والمحطات، بل وسجل ذلك رسميًا في ديباجة الدستور الذي وضعه بعد انقلابه العسكري على دستور 2012 الذي هو دستور ثورة يناير.
في الذكرى السابعة لثورة يناير، قال السيسي للمصريين: “لا يفوتني اليوم أن أتوجّه بتحية تقدير واعتزاز لأبناء شعبنا المصري العظيم بمناسبة ذكرى ثورة 25 يناير، والتي كانت مطالبها نبيلةً تسعى لنيل الحرية والكرامة الإنسانية، وتحقيق سبل العيش الكريم للمواطن المصري”.
في ديباجة دستور السيسي 2014، والذي أجرى تعديلات عليه في 2019، جعلته فوق الدستور وفوق القوانين، بقي النص على ثورة يناير 2011 بوصفها عملًا عظيمًا من إبداعات الشعب المصري، حيث ورد في الديباجة: “جاهدنا – نحن المصريين – للحاق بركب التقدم، وقدمنا الشهداء والتضحيات، في العديد من الهبات والانتفاضات والثورات، حتى انتصر جيشنا الوطني للإرادة الشعبية الجارفة في ثورة “25 يناير – 30 يونية” التي دعت إلى العيش بحرية وكرامة إنسانية تحت ظلال العدالة الاجتماعية، واستعادت للوطن إرادته المستقلة”. وفي موضع آخر، قالت ديباجة الدستور إن “ثورة 25 يناير- 30 يونيو، فريدة بين الثورات الكبرى في تاريخ الإنسانية، بكثافة المشاركة الشعبية التي قدرت بعشرات الملايين، وبدور بارز لشباب متطلع لمستقبل مشرق”.
لو وضعت هذه النصوص المحبوسة في وثائق رسمية أمام تحرّش السيسي المستمر بهذه الثورة، وبالدستور ذاته الذي يصفه، طوال الوقت، بأنه تمت كتابته بحسن نية، وأنه يجب أن يخضع دائمًا للمراجعة والتعديل، فإنه لن يمرّ وقت طويل، حتى يأمر السيسي بإجراء تعديلات جديدة على دستوره، لن تفلت منها ثورة يناير هذه المرّة، بحيث يتم نسفها نسفًا من أية وثيقة دستورية، أو حتى تصريح رسمي، فالرجل وكما ظهر في حفلته الأخيرة متحدثًا عن ثورة يناير بوصفها كانت إعلانًا لموت الدولة المصرية، كان يبصق على دستوره، ويدوس بحذائه على الثورة التي استثمرتها المؤسسة العسكرية لانتزاع الحكم، والهيمنة على كل السلطات في مصر.
اللافت أن عبارات الازدراء والمحو والنكران لثورة يناير جاءت في سياقٍ كان السيسي يتحدّث فيه عن شروطه، لكي يقبل ببقاء خصومه على قيد الحياة في مصر، وهو ما تلقفته مجموعاتٌ محسوبةٌ على المعارضة المصرية في تركيا، تمنّي نفسها بنظرة أو لفتة أو إيماءة من الجنرال، يفهم منها أنه على استعداد لقبول مصالحاتٍ من أي نوع.
لو افترضنا صحّة أن هناك بالفعل “أضغاث مصالحات”، فإن مفهوم السيسي لهذه المصالحة أنها لا بد أن تشتمل على إقرارٍ بإلغاء ثورة يناير، وتاريخها، وكل ما بني عليها من معادلاتٍ سياسيةٍ وتغييراتٍ اجتماعية من الوجود، والإذعان لمساره وحده، الذي هو بالطبع مسار انقلابه في صيف العام 2013. وبذلك يكون مطلوبًا من كل راغبٍ في المصالحة، أو بالأحرى العفو، ألا يتحدّث عن أية شرعية سياسية أو حتى أخلاقية لثورة يناير.
إنها غطرسة القوة المادية المطلقة التي تدفع الجنرال إلى الإعلان صراحةً إن ثورة يناير هي نقيض الوطنية، لتتجاوز، حسب نظرته، كونها مؤامرة، إلى اعتبار أنها كانت عدوانًا على الدولة المصرية، وقد توفر لديه من الظروف الداخلية والخارجية ما يجعله يُمعن في الغطرسة، متحدّثًا أمام حشد نفر من مزدوجي النسب للثورة والثورة المضادّة، والذين لم ينطقوا بكلمة واحدة، حين كان الجنرال يبصق على الثورة ودستورها.
لا شيء يدعو للدهشة في ذلك كله، ما دام بعضهم ارتضى أن يضيّق دائرة نضاله شيئًا فشيئًا، حتى باتت حدودها لا تتجاوز الاحتشاد احتفالًا بالرفيق المناضل العائد خالد يوسف، حيث انتهى الأمر بكثيرين منهم إلى الانتقال من حالة زعيم سياسي إلى فرخة محقونة بهرمونات قلة الحيلة وقلة القيمة.

شاهد أيضاً

وائل قنديل يكتب : عبّاس وغانتس: إجماع فاسد أم انقسام حميد؟

لا ينتعش محمود عبّاس، وتدبّ فيه الحياة والقدرة على استئناف نشاطه في “مقاومة المقاومة” إلا …