“بيزنس السجون الأسود”.. كيف تتربح الشرطة المصرية من معاناة المساجين؟

“السيسي قتل مرسي”، هذا ما انتهى إليه البيان الصادر عن آنييس كالامار المقررة الخاصة المعنية بحالات الإعدام التعسفي وفريق الأمم المتحدة المعني بالاحتجاز التعسفي، فخلال الاحتجاز في ظروف وحشية، والحبس الانفرادي لمدة 23 ساعة باليوم، والإجبار على النوم على أرضية خرسانية، والحرمان من العلاج والدواء لأمراض مثل السكري وارتفاع ضغط الدم، يشرح البيان الأممي الأسباب التي أدّت إلى موت الرئيس السابق محمد مرسي، موت وصفه البيان بالقتل التعسفي، وهي الظروف نفسها والموت ذاته الذي يتعرّض له آلاف المعتقلين السياسيين في سجون مصر.

بعد صدور بيان الأمم المتحدة، وفي سبيل تجميل الموقف، دعا ضياء رشوان، رئيس الهيئة العامة للاستعلامات، وفدا من أمن الدولة لزيارة سجن طرة للاطمئنان على النزلاء معلنا في مداخلة تلفازية: “ليس لدينا ما نخفيه.. إحنا هنعرض ورقنا”، وفي اليوم التالي وصل وفد من المراسلين الأجانب والشخصيات العامة المصرية لسجن طرة، زيارة برفقة مساعدي وزير الداخلية المصري فُرش لأجلها السجن بسجادة حمراء، وفي بداية الزيارة تفقّد الزوار أوضاع النزلاء، ومصانع داخل السجن تضمّنت أماكن للإنتاج الحيواني والسلع والأثاث، إضافة إلى مطعم السجن، الذي يُعِدُّ وجبات من بينها “الباربكيو”، فضلا عن خضراوات وفواكه طازجة من إنتاج مزارع السجون، حسب ما أظهرته صور نشرتها صحف مصرية.

في السياق ذاته، نشرت وزارة الداخلية، الاثنين، مقطع فيديو قالت إنه يُظهر “ملامح التطوير والتحديث لمنظومة السجون المصرية”، حيث عرض المقطع للقاءات مع سجناء ومسؤولين بقطاع السجون، بجانب مشاهد تضمّنها الفيديو لزيارات مسؤولين ونواب بالبرلمان لعدد من السجون، منهم مايا مرسي، رئيسة المجلس القومي للمرأة، وعلاء عابد، رئيس لجنة حقوق الإنسان بمجلس النواب، الذي اتهمه حقوقيون في 2016 بتورطه في وقائع تعذيب عام 2005 تحت حكم مبارك.

محاولة تلميع الصورة

غير أن تلك الصورة التي تروّجها الحكومة المصرية، سعيا لتكذيب بيان الأمم المتحدة الذي يتهّمها بقتل مرسي وتعريض آلاف المعتقلين لظروف وحشية غاية في القسوة، تختلف تماما عن الواقع القابع خلف زخارف تلك الزيارات المصطنعة، هذا ما يقوله المعتقل السابق “عماد محمد”، الذي يبلغ من العمر 25 عاما لـ “ميدان“، وقد أمضى منهم في السجن ثلاث سنوات، وهو الآن لا يريد من الحياة إلا امتلاك حريته بعد أن جرّب فقدها في السجن. وهذا ما يؤكّده عدد من المعتقلين وذويهم الذين توجّه إليهم “ميدان” لتقصي حقائق الزيارات داخل السجون المصرية.

  

فلم تكن تجربة عماد المريرة داخل السجن هي التجربة الوحيدة، ففي السجون المصرية يوجد الآن نحو 60 ألف معتقل سياسي، وفقا لمنظمة هيومن رايتس ووتش، ولا تزال حملات القبض مستمرة (1)، ومعها تزداد أعداد المعتقلين وأعداد السجون حتى وصلت إلى 68 سجنا، منهم 26 سجنا أُنشئت منذ انقلاب يوليو/تموز حتى الآن، ومع زيادة هذه السجون زادت مخصصات وزارة الداخلية في موازنة العام المالي 2018-2019 من “41.4 مليار جنيه إلى 48.5 مليار جنيه، ثم زادت مرة أخرى لتصل إلى 57.5 مليار جنيه” (2).

  

في الوقت نفسه تُبرِّر الحكومة دائما عدم إنشائها للمستشفيات والمدارس نتيجة لعجز الموازنة (3)، على الرغم من أن تكلفة بناء مستشفى بـها 100 سرير تبلغ 750 مليون جنيه وفقا لتصريح وزيرة الصحة (4)، بينما استُخدم المبلغ نفسه لبناء سجن “جمصة العمومي” (5)، و لا يزال النظام مستمرا في بناء السجون التي تستخدمها الداخلية كاستثمار جديد لها، في هذا التقرير نعرض قصصا لأربع شخصيات، منهم مَن كان معتقلا سابقا، ومنهم مَن هو من ذوي المعتقلين، للحديث عن ملمح واحد فقط داخل السجون المصرية وهو “سبوبة” الشرطة داخل السجون، وكيف أصبحت أداة استغلال جديدة لأهالي المعتقلين، إضافة إلى عذابهم الجسدي في زيارة أبنائهم وأزواجهم، وعذابهم النفسي لغياب ذويهم.

“سبوبة” زيارات أهالي المعتقلين

وفقا للمادة 38 من قانون تنظيم السجون: “يحق لكل مسجون سواء كان محبوسا احتياطيا أو محكوما عليه بالسماح لذويه بزيارته، بشرط اتباع الإجراءات التي تُقرّها مصلحة السجون، وهي التواجد في موعد الزيارة في التاسعة صباحا، ووضوح الختم على تصريح الزيارة، وعدم اصطحاب أشياء ممنوعة من قِبل إدارة السجن، بالإضافة إلى منع الزيارة في حالة مخالفة السجين لقواعد السجن، أو تواجده في الحبس الانفرادي أو تحت الاختبار الصحي أو لأسباب متعلقة بالأمن العام” (6).

  

كما تنص لائحة السجون أيضا على السماح بنوعين من الزيارة؛ “الزيارة العادية” بدون رسوم، وعلى الزائر الذهاب إلى مندوب السجن للسماح له بزيارة السجين، والتي تختلف من شخص إلى آخر وفقا لنوع العقوبة، فبالنسبة للرجال تكون مرة واحدة شهريا للمحكوم عليهم بالمؤبد أو المشدد، ومرة كل ثلاثة أسابيع للمحكوم عليهم بالسجن أو الحبس مع الشغل أو المنقولين من الليمانات إلى السجون العمومية، أما النساء فمرة كل ثلاثة أسابيع أيًّا كان نوع العقوبة، وفيما يخص الحبس الاحتياطي أو البسيط، فالزيارة أسبوعيا ما عدا الجمعة والعطلات الرسمية (7).

  

وهناك أيضا الزيارة الخاصة، وهي مرة واحدة شهريا، تتم عن طريق تقديم طلب إلى إدارة السجن مقابل سداد الرسوم المقررة لطلب الزيارة، ثم الانتظار بالموافقة أو الرد، ووقت الزيارة المسموح به هو 60 دقيقة، ويسمح لمحامي السجين زيارته على انفراد بشرط الحصول على إذن كتابي يسمح بالزيارة، ويُمنع من الزيارة “المحكوم عليهم في قضايا مضرة بأمن الدولة، إلا بإذن كتابي من رئاسة قطاع السجون، وبعد استطلاع رأي الجهات الأمنية”، كما يحق للسجين أيضا وفقا للمادة 38 “الاتصال التليفوني والتراسل بذويه بمقابل مادي تحدد إدارة السجن” (7).

لكن الواقع في السجون المصرية يختلف تماما عن تلك اللوائح والقوانين والكلمات المنمّقة ذات المعاني الواسعة وغير المحددة. علاء ناصر، معتقل سابق في الفترة من 2015 حتى 2018، يحكي لـ “ميدان” أنه خلال فترة سجنه لم يستطع دخول الامتحانات نظرا لانتقاله من سجن إلى آخر خلال فترة حبسه، وحتى بعد خروجه من السجن، ما زال يُعاني من الأمر نفسه بسبب فترة المراقبة التي يقضيها في مركز الشرطة من السادسة مساء حتى السادسة صباحا، ويعود بعدها للبيت لا يستطيع الذهاب للجامعة، ولا حتى إيجاد عمل يمارسه، هو الآن يبلغ من العمر 22 عاما، لا يستطيع إنهاء دراسته ولا الحصول على عمل بسبب ظروف اعتقاله وإجراءات المراقبة.

  

يشرح علاء لـ “ميدان“صعوبة الحياة داخل السجن في ظل عدم تطبيق القوانين الموجودة في لائحة السجن، وأنها مجرد حبر على ورق، قائلا: “المفروض حسب لائحة السجن رسوم تصاريح الزيارة الخاصة 3 جنيهات، لكن اللي بيحصل العكس، فرسوم التصريح الواحد بتكون ما بين 20 إلى 30 جنيها، على الرغم من أن هذا الأمر كان يعد عبئا على أسرتي، لكن إدارة السجن لا يهمها هذا، هي فقط تريد أن تجمع الأموال من أهالي المعتقلين بكل الطرق”.

وهذا ما تؤكده والدة المعتقلة “أمينة علي”، التي تبلغ من العمر 20 عاما، وأكملت عاما في سجنها الاحتياطي، رفضت إدارة السجن إدخال الكتب الدراسية لها، فلم تستطع إنهاء عامها الثاني في الكلية، وحتى الآن لا تعرف الوالدة مصير ابنتها المعلق. وفي أثناء حديثها لـ “ميدان” ذكرت الزيادة المضاعفة لرسوم تصريح الزيارة الخاصة قائلة: “قبل عيد الفطر كان التصريح بـ 3 جنيهات، لكن بعد ذلك ارتفع فجأة إلى 15 جنيها، على الرغم من أن الزيادة كانت سببا في زيادة المصاريف عليها، خاصة أن “أمينة” لديها ثلاثة أشقاء غيرها لكنها لم تستطع الاعتراض، حتى لا تُمنع من رؤية ابنتها، وكذلك أهالي المعتقلين الذين لم يعترضوا أيضا على الزيادة، لأن أهم حاجة عندهم يشوفوا ولادهم، ومش مهم الفلوس”، حسب قولها.

وتستمر في حديثها: “حتى في الزيارات العادية أنا بدفع “رشوة”، بداية من ركوب الطفطف إجباري بـ 2 جنيه، وبعد كده بمر بمراحل التفتيش الثلاثة، بداية من”التفتيش الذاتي”، وفيه تقف ثلاث نساء تأخذ كل واحدة منهم 10 جنيهات، تجنبا للإهانة منهم أثناء التفتيش، مرورا بـ “تفتيش السير” وهو شبيه بالموجود في محطة المترو، وهنا يقف أربعة أشخاص يأخذ كل منهم 20 جنيها من أجل السماح بدخول شنط الطعام والملابس، وأخيرا “مرحلة الختم وتسليم البطاقة” للدخول للزيارة مبكرا، وهنا تقف ثلاث نساء تأخذ كل واحدة 30 جنيها، يعني عشان أدخل بس أشوف بنتي وأدخل الأكل والهدوم ليها بدفع رشوة كل أسبوع بتوصل لـ200 جنيه، غير الحاجات اللي بكون جايبها معايا في الزيارة وبدفع فيها فلوس كتير”، وتشكو والدة “أمينة” من كثرة المصروفات، خاصة أن لديها ثلاثة أبناء غيرها، يحتاجون أيضا إلى مصروف، قائلة: “أصبحت لا أستطيع تحمّل كل المصاريف دي، لكن مجبرة من أجل بنتي”.

والدة المعتقلة “علياء أحمد” تحكي هي الأخرى أن ابنتها تبلغ من العمر 19 عاما، وهي مريضة ضغط ومرض آخر في الأعصاب، تمنع إدارة السجن دخول الدواء لها في أحيان كثيرة، بالإضافة إلى منع دخول الكتب الدراسية، مما تسبب في منعها من دخول امتحانات هذا العام، ولا تعرف متى سينتهي سجن ابنتها، وتشكو لـ “ميدان” من ارتفاع زيادة رسوم تصريح الزيارة الخاصة، بالإضافة إلى الرشوة التي تدفعها “غصبا واقتدارا” في الزيارة العادية، مثل رسوم الطفطف الذي تدفعه مجبرة، ولا تركبه نظرا لازدحامه، حتى تستطيع دخول الزيارة مبكرا لابنتها.

   

غير أن المعتقل السابق “عماد محمد” يوضح أن الرسوم الإضافية على تصاريح الزيارات الخاصة لم تكن موجودة أثناء فترة اعتقاله، “ولكنها طُبِّقت بعد خروجه من السجن”، ويضيف: “أهالي المعتقلين أثناء اعتقالي كانوا بيدفعوا “رشوة” بطريقة تانية عشان يقعدوا مع ولادهم فترة أطول، لأن إدارة السجن بتسمح أنهم يشوفوا ولادهم 10 دقائق بس، على الرغم من أن لائحة السجون تسمح بالزيارة لمدة ساعة”. ويتابع: “في كمان رسوم إجبارية بيدفعها أهالي المعتقلين عشان ركوب الطفطف، لأن إدارة السجن تمنع الأهالي من المشي داخل ممر السجن حتى مكان الزيارة، وكمان بتمنع إدارة السجن المكالمات التليفونية بين المعتقل وأسرته، سواء بمقابل أو بدون، وفي حالة وجود تليفون مع شخص داخل السجن يتعرّض للعقاب وتلفق له قضية”.

وهذا كله فضلا عن المعاملات داخل السجن التي لا تتم إلا بعملة “السجائر”، أما إذا أراد السجين الحصول على طعام أو مياه فعليه أن يحصل عليها من “الكانتين” بأسعار مضاعفة، يشرح عماد قائلا: “السجائر هي العملة الرسمية في السجن لتأجير مستلزمات النوم، وعملة الكانتين هي البونات بشرط وجود أموال لك في أمانات السجن، أما الرشوة فهي لدخول أي شيء آخر، كل حاجة في السجن ادفع عشان تعيش، السجن استثمار للشرطة”.

الكانتين”.. استثمار داخل السجون”

في تقرير للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية تحت عنوان “البيع في الكانتين.. الإفقار العمدي في السجون” الذي صدر عام 2018، ألقى التقرير الضوء على الاستغلال الاقتصادي للمساجين عن طريق الكانتين، وطبّق ذلك على سجن العقرب خلال الفترة من 2016 إلى 2017، فأشار التقرير بعدم ذكر الكانتين في لائحة السجون، ولا حتى الأسس التي وُضعت على أساسها الأسعار، وبالتالي تستطيع إدارة السجن رفع أسعار أبسط السلع لتحقيق أكبر ربح ممكن (8).

  

هذا ما يؤكده “علاء ناصر” لـ “ميدان” قائلا: “أسعار الكانتين مش ثابتة، على سبيل المثال في السجون البعيدة مثل “وادي النطرون” بتكون الزيادة في الأسعار من 50% إلى 70%، أما بالنسبة للسجون القريبة مثل “طرة” الزيادة بتكون ما بين 13% إلى 25%”، ويوضح علاء أن الكانتين “لا يبيع غير السلع الأساسية، مثل السكر، والزيت، والشاي، والأرز، والملح، وعلب الفول، والتونة، لذلك تمنع إدارة السجن دخول هذه السلع حتى تُجبر المعتقلين على شرائها من الكانتين، على الرغم من أن هذه المصاريف كانت زيادة كبيرة على أُسر المعتقلين، لأنهم مجبرون على ترك أموال لنا في أمانات السجن حتى نستطيع شراء ما نحتاج إليه من الكانتين”.

           

ويكمل علاء: “إن المساجين أصحاب الحالة المادية السيئة، أو أهالي المعتقلين الذين يعيشون في مناطق بعيدة مثل سيناء، التعامل معهم كان يتم بثلاث طرق؛ تقديم المساعدة لهم من قِبل المساجين الأغنياء، أو الانضمام لإحدى الجماعات التي تساعدهم بالمال والطعام مقابل الولاء لهم، أو قيامهم بغسل ملابس المساجين مقابل السجائر التي هي العملة الرسمية بالسجن، هذا بالنسبة للسجين السياسي، أما بالنسبة للسجين الجنائي، فمَن لا يملك المال ولا السجائر يُعامل معاملة “السُّخرة”، بيطبخ ويمسح وينظف الحمامات وممكن يعمل أي حاجة مقابل فلوس أو علبة سجاير”، ويضيف “عماد محمد” لـ “ميدان” أن أثناء فترة سجنه “كانت تباع علبة التونة بـ 15 جنيها، على الرغم من أنها خارج السجن بـ 10 جنيهات، وهذه زيادة كبيرة سواء بالنسبة لي حتى لو حالتي المادية ميسورة”.

   

وهذا ما أكّدته والدة المعتقلة “أمينة علي” قائلة: “الأسعار غالية هناك، يعني سعر مسحوق الغسيل اللى بيتباع بره السجن بـ 30 جنيها داخل الكانتين بـ 83 جنيها، ومانعين إن احنا ندخل الحاجات دي عشان المساجين يشتروها من الكانتين، ومش بس كده، كمان بعد ما فتحوا فرع العبد في سجن القناطر، منعوا دخول الحلويات عشان يبيع داخل السجن، لكنه على الرغم من كده أنا بحاول أدخل كل الأكل والحاجات اللي معايا، مقابل رشوة بدفعها للناس اللي واقفة، وبسيب في أمانات السجن فلوس الدواء بس، لأن المصاريف بقيت كتيرة علي ومبقتش قادرة أستحملها”. على الجانب الآخر تقول والدة المعتقلة “علياء أحمد”: “أنا مجبرة أسيب لبنتي فلوس في أمانات السجن عشان تقدر تشتري زجاجات مياه للشرب والاستخدام الشخصي من الكانتين، لأن بنتي قالتلي إن مياه السجن بتكهرب.. وزجاجة المياه خارج السجن الصغيرة بـ 3 جنيهات وفي الكانتين بـ 10 جنيهات، ودي مصاريف إضافية جنب مصاريف الدواء والأكل اللي بدخله كل أسبوع”.

غرف الحبس الاحتياطي المؤثثة.. “فنكوش” الشرطة

تنص المادة 14 الخاصة بالحبس الاحتياطي بعد تعديلها عام 2015 على أن من حق “المحبوسين احتياطيا الإقامة في أماكن منفصلة عن أماكن غيرهم من المسجونين، ويجوز التصريح للمحبوس احتياطيا بالإقامة في غرفة مؤثثة مقابل مبلغ يحدده مساعد الوزير لقطاع مصلحة السجون لا يقل عن 15 جنيها يوميا، وفقا للإجراءات والقواعد التي تحددها اللائحة الداخلية” (9). لكن القانون قيّد هذه المادة بجملة: “وذلك في حدود ما تسمح به الأماكن والمهمات بالسجن”، وهذا معناه “في حالة عدم توافر الأماكن أو المهمات في السجن فليس من حق المحبوس احتياطيا الجلوس في هذه الغرف أو الاعتراض على عدم وجودها” (10).

   

وعندما سأل “ميدان” عن تلك الغرف “المؤثثة”، تعجّب المعتقل السابق علاء ناصر قائلا: “أنا عمري ما قعدت في غرفة الحبس الاحتياطي، الغرفة دي موجودة بس في لائحة السجن، لكن الغرفة المسموح بها هي العمبوكة، أوضة 4×6 أمتار بها 50 مسجونا، قعدت فيها لمدة 12 يوما، موجودة في سجن 440 بوادي النطرون، ولا يوجد بها منفذ للتهوية.. أما الغرفة الأخرى فهي غرفة التأديب وهي خاصة بمَن يرتكبون مخالفات داخل السجن، ويكون العقاب 15 يوما، والطعام عبارة عن نصف رغيف، وقطعة جبنة صغيرة، وزجاجة مياه، وجردل لقضاء الحاجة”.

   

ويكمل علاء: “بالنسبة للسجون الأخرى اللي مريت عليها مثل العقرب 2، وسجن المزرعة، فقد حصلت فيها على بطانية ومرتبة، أما سجون “ليمان طرة”، “الملحق”، “بنها”، “أبو زعبل”، “الاستئناف”،”440″، لم أستلم هناك شيئا، وكانت الغرفة فارغة”، ويكمل: “في السجن مفيش فيه حاجة اسمها سرير، “البلاط” بيكون السرير”، وهذا ما أكّده “عماد محمد” لـ “ميدان“، لكنه يُضيف أنه حصل على بطانية قبل الترحيل من القسم، قائلا: “معاملة الجنائيين أفضل بكتير من معاملة السياسيين، فمسموح لهم بدخول مروحة وتلفاز وصحف، لكن بالنسبة لنا ممنوع كنوع من العقاب، وبالنسبة للمعاملة الإنسانية كويسة نوعا ما عشان شايفين إن السياسيين ولاد ناس ومتعلمين، على عكس الجنائيين”.

أما والدة المعتقلة “أمينة علي” فتعجّبت بعد سماعها بغرفة الحبس الاحتياطي المؤثثة، قائلة: “لا أعلم عن هذه الغرفة شيئا، رغم أن بنتي في الحبس الاحتياطي من سنة، لكنها تجلس في عنبر به 40 مسجونة، وتنام هي وفتاة أخرى على سرير طوله 40 سم”، وتضيف أن ابنتها ذهبت لمأمور السجن، لرغبتها في النوم على سرير بمفردها، فجاء الرد: “أنا لو بإيدي أحجز الهواء اللي إنتو بتتنفسوه عشان تموتوا هعمل كده”، ورفض السماح لها بالنوم على سرير بمفردها. وتكمل: “حاولت بعدها أوفر لها مرتبة بأي طريقة، ونجحت في تأجير مرتبة، ومخدة، وبطانية، وثلاجة لوضع الطعام فيها، مقابل خرطوشة سجائر أسبوعيا ثمنها 200 جنيه، كمان دخلت مروحة لبنتي، بعد ما كانت إدارة السجن ترفض إدخالها كل مرة، فكنت أتركها في أمانات السجن مقابل رسوم 30 جنيها، وفي النهاية نجحت في إدخالها مقابل رشوة بـ 200 جنيه”.

  

فيما أكّدت والدة المعتقلة “علياء أحمد” أيضا عدم معرفتها بغرفة الحبس الاحتياطي المؤثثة، وذكرت أن الغرفة التي كانت تجلس فيها ابنتها هي غرفة “الإيراد”، ومخصصة للمساجين الجدد، ظلت فيها لمدة 18 يوما، وفي أوقات كثيرة كانت تنام ابنتها وهي واقفة، نظرا لازدحام الغرفة الشديد، وعدم وجود مكان للنوم فيها، وتكمل: “بعد ذلك انتقلت ابنتي لعنبر الجنائيين على الرغم من أنها معتقلة سياسية”، وعندما كانت تسأل ابنتها عن حالها داخل العنبر، كانت تقول لها: “يا ماما ما تسألنيش، هو أنتِ مش عارفة يعني إيه أقعد في عنبر جنائيين، مع بتوع الآداب والمخدرات”.

تشكو والدة علياء من سوء حالة ابنتها وحالتها النفسية السيئة داخل السجن بسبب جلوسها في هذا العنبر، والموجود به 12 سجينة، ورفضت إدارة السجن السماح لابنتها بتغيير هذا العنبر بالإضافة إلى منعها من تأجير بطانية ومرتبة، ووضّحت أن تأجير هذه الأشياء “مسموح به للجنائيين، والمعتقلين السياسيين بيأجروا منهم مقابل خرطوشة سجائر، تشتريها لابنتها من كانتين السجن بـ 200 جنيه”.

  

“الخوف” يمنع الأهالي من الشكوى الرسمية

تنص المادة 56 من الدستور المصري على أن “السجن دار إصلاح وتأهيل. تخضع السجون وأماكن الاحتجاز فيه للإشراف القضائي، ويحظر فيها كل ما ينافي كرامة الإنسان، أو يُعرّض صحته للخطر، وينظم القانون أحكام إصلاح وتأهيل المحكوم عليهم، وتيسير سبل الحياة الكريمة لهم بعد الإفراج عنهم” (11). لكن تبقى هذه الكلمات مجرد حبر على ورق لا يُنفّذ منه شيء، وهذا ما يوضحه أيضا “خلف بيومي”، مدير مركز الشهاب لحقوق الإنسان، في حديثه لـ”ميدان“: “هناك الكثير من الشكاوى التي تصل إلى المركز بسبب المبالغ الكثيرة التي يدفعها الأهالي أثناء الزيارة وللكانتين، لكن الكثير منهم يرفض تقديم شكوى رسمية، حتى لا يترتب عليها المنع من الزيارة، ولذلك فالطريق القانوني لوقف هذه التجاوزات لن يحقق شيئا”.

  

وهذا ما أكده أيضا المحامي الحقوقي “رؤوف عيسى”، كما أكد زيادة رسوم الزيارات الخاصة، وأشار إلى وجود نظام الغرف الاحتياطية لكن التعامل معها يتم “بصورة غير رسمية لبعض الأشخاص”، وعلى الرغم من المعاناة والقهر اللذان يتعرض لهما المعتقلون وذووهم وعائلاتهم، صرّح اللواء “زكريا الغمري”، مساعد وزير الداخلية المصري لقطاع السجون، في عام 2018 أن السجين يحصل على راتب شهريا ما بين 3 آلاف إلى 6 آلاف جنيه، وذلك مقابل عملهم في مصانع السجون (12).

فيما تؤكد المصادر التي تواصل معها “ميدان” خلال التقرير منع المعتقلين السياسيين من العمل نهائيا، بل في بعض الأوقات يتم منعهم من التريّض. ولم يكن تصريح “الغمري” الأول لتجميل حال المساجين، فزيارة “لجنة حقوق الإنسان في البرلمان المصري” للسجون في عامي 2017-2018 (13)(14) أظهرت أن الحياة داخل السجون حياة فندقية، في الوقت نفسه أعلن “محمد فايق”، رئيس مجلس حقوق الإنسان، أنه في يوليو/تموز 2019 تقدم المجلس أكثر من مرة بطلب زيارة للسجون، لكن حتى الآن لم يُسمح له بالزيارة (15).

   

فالتقارير التي تُصدرها مراكز حقوق الإنسان وشهادات المحامين المختصين بقضايا المعتقلين السياسيين في مصر عن ما يتعرّضون له من قهر وتعذيب وتشوّهات نفسية وجسدية تتناقض مع الصورة التي تروّجها لجنة حقوق الإنسان في البرلمان عن رفاهية السجون، ولعل الحادثة الأبرز هذه الأيام ما حدث للناشطة إسراء عبد الفتاح التي تعرضت للضرب في أنحاء كثيرة من جسدها (16)، وما حدث أيضا للناشط “علاء عبد الفتاح” الذي تعرض للضرب والتجريد من ملابسه، والأمر نفسه حدث للمحامي ومؤسس مركز عدالة للحقوق والحريات “محمد الباقر” الذي جُرّد من ملابسه، ومُنع من شراء مياه نظيفة وطعام من كانتين السجن.

   

ولم يقتصر الأمر في السجون على التعذيب فقط (17)، بل وصل إلى القتل العمد نتيجة للإهمال الطبي في السجون، فبين عامي 2016 و2018 توفي نتيجة للإهمال الطبي 819 سجينا، وفي عام 2019 وصل عدد حالات الوفاة إلى 22 سجينا (18)، وعلى الرغم من ذلك لا يزال النظام المصري مستمرا في إنكار وجود انتهاكات في السجون المصرية (19). ويبدو أن هذا الوضع سيستمر طويلا، لأن السجون في مصر لم تعد فقط جحيم المعارضين للنظام العسكري، بل تحوّلت إلى نوع جديد من الاستثمار، التي تدر ربحا مرضيا لأمناء الشرطة والضباط والعاملين في السجن، ويبدو أن جمهورية مصر العربية قد تحوّلت تحت حكم المؤسسة العسكرية إلى جمهورية “ادفع علشان تعيش”.

شاهد أيضاً

مصريون يتظاهرون أمام وزارة الخارجية دعمًا لغزة ويطالبون بمرافقة المساعدات

نظَّم عشرات المصريين، الإثنين 18 مارس 2024، وقفة احتجاجية أمام وزارة الخارجية المصرية، دعماً لقطاع …