علاء بيومي يكتب : لماذا لم يحكُم ثوار يناير في مصر؟

من أهم الأسئلة التاريخية التي لم يتوقف عندها المصريون كثيرا السؤال عن أسباب عدم تولي شركاء ثورة يناير الحكم بعد تنحي حسني مبارك في 11 فبراير/ شباط 2011؟ ولماذا تركوا السلطة للمجلس العسكري، يديرها بالطريقة المعيبة التي أدار بها البلاد، وأدّت إلى إفشال ثورتهم في النهاية؟

فور تنحّي مبارك، كانت الثورة المصرية في عنفوانها. كانت الجماهير تملأ الميادين، وشعبية ثوار التحرير طاغية في مصر وفي العالم، والنظام الحاكم في حالة صدمة وارتباك شديدين لا تستثني أحدا. وهنا تشير مراسلاتٌ نشرتها وزارة الخارجية الأميركية، من بريد وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، هيلاري كلينتون، إلى أن الجيش المصري كان يدرك، منذ بداية التظاهرات، أنه أمام انتفاضة حقيقية للشعب المصري، لا يحرّكها الإخوان أو شباب الإنترنت، كما كان يخشى استمرار المظاهرات وتأثيرها على الأوضاع الاقتصادية واستقرار البلاد، وأنه بات يخشى، بمرور الوقت، أن يعصي بعض الجنود والضباط الأوامر، لو استمر مبارك في الحكم ودخل الجيش في صدامات مع المتظاهرين، وهو ما دفع الجيش، في نهاية المطاف، إلى الضغط على مبارك للتنحّي.

وتفيد المصادر نفسها بانقسام قادة الجيش بخصوص موقفهم من تولّي الحكم بعد رحيل مبارك، حيث “أشار بعض القادة العسكريين الكبار إلى تغيير القيادة (بتنحّي مبارك وتولي الجيش الحكم) بالانقلاب العسكري، بينما رأى آخرون أن النظام، والجيش، يحافظان على مواقعهم القيادية وفقا لنظام وضعه عبد الناصر والسادات (1952) … كما طالب بعض الضباط الصغار بحلٍّ تُركي، يقوم فيه الجيش بتولي السلطة خلال أزمة، والعمل كضامن لديمقراطية مدنية”.

ثورة يناير انطلقت بشكل مفاجئ، وفي ظل سقفٍ منخفضٍ لرؤى (وتطلعات) القوى الداعية إليها

لذا أعلن الجيش في الإعلان الدستوري، الصادر في 13 فبراير/ شباط 2011، نيّته إدارة البلاد “بصفة مؤقتة لمدة ستة أشهر، أو انتهاء انتخابات مجلسي الشعب والشورى ورئاسة الجمهورية”. وقد يرى بعضهم حاليا أن الإعلان السابق لم يكن إلا مناورةً من قادة الجيش للالتفاف على الثورة وتهدئتها، حتى يتمكّن من الانقضاض عليها، خصوصا وأن الجيش المصري كمؤسسة هو أهم أركان النظام. وقد يرى آخرون أن قادة الجيش كانوا يتلمّسون خطاهم في فترة شديدة الصعوبة، خصوصا وأنهم كانوا مبعدين عن سدة الحكم خلال عقود حكم مبارك الذي حرص على تهميش دور الجيش السياسي.

وبغض النظر عن نيات قادة الجيش الحقيقية، يبقى سؤال أساسي: لماذا لم يسع الثوار أنفسهم إلى اقتناص السلطة في الفترة السابقة على تنحّي مبارك أو بعد تنحّيه مباشرة؟ لماذا اكتفوا بدور القوى الضاغطة المطالبة للجيش بإصلاحاتٍ مختلفة، ولم يضغطوا على الجيش وقادته لتسليم السلطة فورا لحكومةٍ تعبّر عنهم؟ وللإجابة، يجب التذكير، أولا، بأن انتفاضة أو ثورة يناير حدثت، كأي انتفاضةٍ جماهيريةٍ أخرى، بشكل مفاجئ لم يتوقعه أحد، بما في ذلك الشباب الداعون إلى التظاهر في 25 يناير أنفسهم. ومن الكتابات الهامة بهذا الخصوص مذكرات الناشط المصري، وائل غنيم، بعنوان “ثورة” (دار الشروق، القاهرة، يناير/ كانون الثاني 2012)، والذي كان من أوائل الداعين إلى التظاهر في 25 يناير، يوم عيد الشرطة، من خلال إدارته صفحة “كلنا خالد سعيد” في “فيسبوك”، حيث يشير إلى أنه لم يستخدم لفظ “ثورة” في الدعوة إلى التظاهر يوم 25 يناير، إلا بعد هروب الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، والذي فتح للنشطاء المصريين آفاقا جديدة. كما يتحدّث الكتاب أيضا عن خلفية وائل غنيم غير المسيّسة، وكيف سعى، طوال حياته، إلى الابتعاد عن العمل السياسي المنظم، حفاظا على أمنه الشخصي، وتعبيرا عن الثقافة السياسية المحافظة لشباب مصريين كثيرين يخشون العمل السياسي المنظم، ويفضلون النشاط على وسائل التواصل الاجتماعي بديلا عنه.

وربما كان هناك شباب مصري من الداعين إلى التظاهر في 25 يناير أكثر تسيّسا وثورية من وائل غنيم، حيث يتحدّث عزمي بشارة باستفاضة في كتابه “ثورة مصر: الجزء الأول: من جمهورية يوليو إلى ثورة يناير” (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت- الدوحة، 2016)، عن هؤلاء الشباب وجهودهم في الدعوة إلى التظاهر في 25 يناير وتنظيم تلك المظاهرات، وكيف أنهم وفّروا “نواة صلبة” لتلك الدعوة، ولكن الكتاب نفسه يتحدّث عن صدمة هؤلاء الشباب من حجم الاستجابة الجماهيرية ومطالب المتظاهرين بإسقاط النظام، وكيف تخطّت سقف مطالبهم التي كانت تقتصر على رفع حالة الطوارئ، وإقالة حكومة أحمد نظيف، ووقف مشروع توريث رئاسة الجمهورية، من مبارك إلى نجله جمال، وإلغاء نتيجة انتخابات مجلس الشعب السابقة.

هذا يعني أن ثورة يناير انطلقت بشكل مفاجئ، وفي ظل سقفٍ منخفضٍ لرؤى (وتطلعات) القوى الداعية إليها، والتي لم تتوقع خروج المصريين في يناير، ولم تمتلك مطالب ثورية واضحة في حينه. وربما كان حال بعض الشباب أكثر ثوريةً من حال بعض قوى المعارضة التقليدية كجماعة الإخوان المسلمين، التي تردّدت في المشاركة بالمظاهرات، وبعض الأحزاب السياسية المعارضة ذات الصلات القوية بالنظام، كما وجود محمد البرادعي في 20 يناير في فيينا، ولما اتصل به مراسل صحيفة “نيويورك تايمز” في القاهرة، ديفيد كيركباتريك، ليسأله عن رأيه في ما يجري، أخبره البرادعي “بصراحة، لم أتوقع أن الشعب جاهز”، وذلك وفقا لما ذكره كيركباتريك في كتابه “في أيدي الجنود” المنشور في 2018.

انقسمت القوى الليبرالية واليسارية إلى أحزاب مختلفة، وإلى مستقلين، كلجنة الحكماء. وعمل البرادعي والقوى الملتفة والشخصيات حوله ككيان مستقل

ثانيا: عجزت “قوى يناير” عن توحيد صفوفها خلال أسابيع الثورة الأولى، حيث يرصد عزمي بشارة في كتابه حجم الخلافات التي قسّمت هذه القوى قبل تنحّي مبارك، على الرغم من حالة اليوتوبيا التي صنعتها الميادين، والتي كانت تؤكّد على وحدة المصريين بشكل غير مسبوق. ولكن تلك اليوتوبيا غطت على حقيقة أن القوى السياسية كانت منقسمة كعادتها. على سبيل المثال، فشل اجتماع للبرلمان الشعبي عقد في 30 يناير في التوصل إلى اتفاق حول قيادة موحدة تمثلهم في التفاوض مع قوى النظام، واضطر مرشد الإخوان المسلمين، محمد بديع، لمغادرة اللقاء بعد أن تمت مقاطعته عدة مرّات خلال محاولته الحديث. وفي 3 فبراير/ شباط، اجتمعت مجموعة من المثقفين والنشطاء والشخصيات النخبوية، ضمت ما يعرف بلجنة الحكماء مع نائب الرئيس، عمر سليمان، في وقتٍ قاطعت بقية القوى السياسية الاجتماع مع سليمان بعد “موقعة الجمل”. وكان تركيب اللجنة نفسها مثارا لأسئلةٍ كثيرة، حيث ضمت بين أعضائها أكاديميين وبيروقراطيين سابقين ورجال أعمال ينتمون لتوجهات شديدة الاختلاف.

ولما وافقت بعض القوى السياسية على الاجتماع مع عمر سليمان في 6 فبراير، كانت المعارضة منقسمة إلى أكثر من توجّه، حيث حرص “الإخوان” على المهادنة، وعدم تصدّر المشهد. ومالت بعض الأحزاب التقليدية، كالوفد، إلى القرب من النظام، والبعد عن الإخوان المسلمين “المحظورين”. وانقسمت القوى الليبرالية واليسارية إلى أحزاب مختلفة، وإلى مستقلين، كلجنة الحكماء. وعمل البرادعي والقوى الملتفة والشخصيات حوله ككيان مستقل. وظل شباب الثورة بلا كيانٍ يجمعهم، حتى بدأوا في الإعلان عن ائتلاف شباب الثورة خلال الفترة نفسها، ولم يسعفهم الوقت ولا القدرات على تصدّر المشهد، ناهيك بتوجهاتهم المختلفة. وبعد الانتهاء من الحوار الفاشل مع عمر سليمان، كانت بعض القوى، مثل الجماعة الإسلامية ما زالت تأمل في نجاحه، على أمل الاعتراف بها سياسيا. حتى “الإخوان” كانوا منقسمين داخليا، حيث لم يعرف بعض قادتهم أنهم عقدوا اجتماعا سرّيا مع عمر سليمان قبل مشاركتهم في اجتماعه العلني مع القوى السياسية المختلفة.

ظلت حالة الانقسام والتيه مسيطرةً على قوى يناير بعد تنحّي مبارك، واكتفت بالضغط على المجلس العسكري، للمطالبة بإصلاحات

ثالثا: في مقابل صدمة “قوى يناير” وانقسامها، كان الجيش، المتردّد في حينه، يعبّر عن أكثر من مؤسسة عسكرية، فالجيش المصري تمتع بمكانة سياسية خاصة في ظل نظام 1952. وعلى الرغم من حرص مبارك على تهميشه سياسيا، إلا أن الجيش، في المقابل، بنى إمبراطورية اقتصادية ومزايا فئوية كثيرة بات حريصا عليها، وبعد انهيار قيادة النظام ومؤسسات الأمن الداخلية، بات الجيش، والذي يمتلك قيادة موحّدة، ومؤسسات استخباراتية، ودعما دوليا كبير، المؤسّسة الأكثر قدرةً على إدارة البلاد والهيمنة على المؤسّسات الأخرى، كما تمتع أيضا بمكانةٍ كبيرةٍ في الثقافة السياسية المصرية، خصوصا في ظل حرص بعض المثقفين والنخب على القرب من الجيش وإعلائه والحديث عنه كعمود الخيمة.

رابعا: ظلت حالة الانقسام والتيه مسيطرةً على قوى يناير بعد تنحّي مبارك، واكتفت بالضغط على المجلس العسكري، للمطالبة بإصلاحات، بدلا من مطالبته بتسليم الحكم فورا. وهنا يوفر الجزء الثاني من كتاب عزمي بشارة عن ثورة مصر، تحت عنوان “من الثورة إلى الانقلاب”، تفاصيل كثيرة هامة عن موقف القوى السياسية في الفترة التالية لرحيل مبارك، حيث ظل “الإخوان” على محافظتهم السياسية، وتركيزهم بالأساس على الإسراع في العملية الانتخابية، وظل الشباب الأصوات الأكثر ثوريةً، لكنها أصواتٌ افتقرت لعدة مقوّمات مهمة، كوحدة القيادة، والقدرة على فرض وجهة نظرها على الميادين، وعلى القوى السياسية التقليدية، والتي نظرت إلى الشباب شريكا أصغر وأقلّ خبرة، كما اكتفوا، في أحيان كثيرة، بالتعبير عن مطالب مختلفة من المجلس العسكري، لا ترتقي إلى نقل السلطة. ولعل مطلب نقل السلطة نفسه كان سيظل فارغا من دون وجود كيان ثوري موحد قادر على فرض مكانته على بقية “قوى يناير” وعلى الشارع وعلى المجلس العسكري. وكان صعود هذا الكيان مستحيلا، في ظل انقسام “قوى يناير” قبل 25 يناير وخلال أسابيع الثورة، وبعدها، وهو انقسامٌ تعزّزه عقود طويلة من إرث الشك والانقسام والمخاوف المتبادلة.

تعاني القوى السياسية المصرية من مشكلاتٍ تبدو مزمنة، وفي مقدمتها ضعف القدرة على العمل الجماعي المؤسسي والحوار

خامسا: مع استمرار حالة التشرذم والانقسام وفي غياب أي جهد حقيقي للحوار بين القوى السياسية، استمرّت مختلف القوى في طريقها منفردة، وبدأ المجلس العسكري في عقد بعض الاستحقاقات الانتخابية، مثل الاستفتاء على التعديلات الدستورية والانتخابات التشريعية، وهي استحقاقاتٌ حولت خلافات القوى السياسية إلى انقسامات حادّة، حيث انشغلت تلك القوى بالمنافسة على السلطة، ما زاد شعورها بالتنافس والاحتقان والخوف من هيمنة بعضها على المستقبل ومكاسب الثورة، بدلا من الانشغال بالحوار لبناء منبر واحد يعبّر عنها، ويضمن وحدتها أمام قوى النظام القديم.

ولعل التذكير بالقضايا السابقة يساعدنا على إعادة تقييم المشهد السياسي المصري الراهن، ففشل الثورة المصرية يبدو أولا مسؤولية جماعية تتشارك فيها مختلف القوى السياسية بلا استثناء، بسبب انقساماتها، وضعف استعدادها، وقدرتها على الحوار، ولا تنفرد بها جهة بعينها. ثانيا: تعاني القوى السياسية المصرية من مشكلاتٍ تبدو مزمنة، وفي مقدمتها ضعف القدرة على العمل الجماعي المؤسسي والحوار، حيث تغلب على عمل السياسي المعارض في مصر الفردية من ناحية، وافتقار الحوار الجاد بين القوى الجماعية من ناحية أخرى. ولعل ذلك من أعراض الحياة في نظام قمعي يجرّم العمل السياسي ويطارده، ويشوّه صورة المشاركين فيه. ولعل هذا المقال دعوة إلى النشطاء المصريين إلى التواضع، والكفّ عن إعلاء الفردية والجهوية، ودعوة إلى المصريين إلى الوعي بعيوبهم السياسية وأسباب فشل ثورتهم الداخلية، قبل الخارجية.

شاهد أيضاً

وائل قنديل يكتب : عبّاس وغانتس: إجماع فاسد أم انقسام حميد؟

لا ينتعش محمود عبّاس، وتدبّ فيه الحياة والقدرة على استئناف نشاطه في “مقاومة المقاومة” إلا …