د. همام سعيد

الإخوان المسلمون .. فكرةً ومنهاجاً وتطبيقاً عملياً (2)

الإخوان المسلمون ومرحلة التمكين

يتساءل كثير من الناس: أين الإخوان المسلمون من مرحلة التمكين، وهاهم قد مضى على دعوتهم قُرابةُ تسعين عاماً، ولم تقم دولةُ الإسلام التي قامت دعوتهم من أجلها؟!

وللإجابة على هذا السؤال لا بد من بيان مفهوم التمكين من الناحيتين  اللغوية والحركية:

أما في اللغة: فقد جاء معنى التمكين بمعنى الظفر: قال ابن سِيْدَة: تَمَكَّنَ مِنَ الشيءِ واسْتَمْكَنَ ظَفِر، وَالِاسْمُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ المكانَةُ.

وبمعنى المنزلة: قال ابن سِيْدَة: المَكانةُ المَنْزلة عِنْدَ الْمَلِكِ. وقال الفراء: لي في قلبه مكانة وموقعة ومحلة.

وقال أبو زيد: فلان مكين عند فلان: بيِّن المكانة، يعني المنزلة.

وبمعنى التُّؤَدة: قال الأزهري: والمَكانةُ: التُّؤَدَةُ، وَقَدْ تَمَكَّنَ. ومَرَّ عَلَى مَكِينته، أَي: عَلَى تُؤَدَتِه.

وبمعنى التثبيت والتمليك: قال في “التحرير والتنوير”: ومعنى: ﴿مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ ثبتناهم وملَّكناهم، وأصله مشتق من المكان. فمعنى مكَّنه ومكَّن له: وضع له مكانا. قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا﴾. ومثله قولهم: أرَضَ له: أي: جعل له أرضاً.

وبمعنى الإقدار والتصرف: قال في “التحرير والتنوير”: ويُكنَّى بالتمكين عن الإقدار وإطلاق التصرف، لأن صاحب المكان يتصرف في مكانِه وبيته.

وبمعنى التثبيت والتقوية: قال في “التحرير والتنوير” أيضاً: ثم يطلق على التثبيت والتقوية والاستقلال بالأمر. ويقال: هو مَكِين بمعنى ممكَّن، فعيل بمعنى مفعول. والتمكين في الأرض: تقوية التصرف في منافع الأرض، والاستظهار بأسباب الدنيا، بأن يكون في منعة من العدو، وفي سعة في الرزق، وفي حسن حال، قال تعالى: ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ﴾، وقال: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ الآية. فمعنى مَكَّنه: جعله متمكِّنا، ومعنى مكن له: جعله متمكنا لأجله.

ونخلص في معنى التمكين أنه الحلولُ في الشيء، والإقدارُ عليه، والتصرفُ فيه وفي منافعه، والتقويةُ عليه، والاستظهار بأسباب الدنيا بأن يكون في مَنَعة من العدو، وفي سَعَة من الرزق، وفي حسن حال.

 

وأما في فقه الدعوة والحركة؛ فقد عرفه الدكتور علي عبد الحليم، فقال: هو الهدف الأكبر لكل مفردات العمل من أجل الإسلام .. حتى يكون سلطان الدين الإسلامي على كل دين ونظام، والحكم بهذا الدين على البشرية كلها.

وبنحوه عرفه الأستاذ فتحي يكَن، فقال: بلوغ حال من النصر، وامتلاك قدر من القوة وحيازة شيء من السلطة والسلطان، وتأيييد الجماهير والأنصار والأتباع ، وهو لون من ألوان الترسيخ في الأرض، وعلو الشأن.

والذي نراه: أن التمكين في فقه الدعوة له صور وأنواع ومراتب:

يبدأ من القدرة على تبليغ الدعوة، وينتهي بالحكم والسلطان لهذا الدين، مرورا بجميع ما تستطيع أن تحققه الجماعة في مختلف ميادين العمل الحركي.

وبهذا المفهوم لا يأتي التمكين جملة واحدة وإنما يأتي بالتدريٍج وامتلاك عناصر التمكين شيئاً فشيئاً، كما هو منهج القرآن في ذلك، فقد ملك يوسف عليه السلام التمكين في بيت العزيز، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾ ولا يعدو هذا التمكين أن أمن يوسف على نفسه، فكما يقول صاحب الظلال: “بأن يوسف قد وصل إلى مكان آمن، وأن المحنة قد انتهت بسلام، وأنه مقبل بعد هذا على خير”، ثم قال: “قدر ليوسف التمكين في الأرض- وها قد بدأت بشائره بتمكين يوسف في قلب الرجل وبيته، ويشير إلى أنه ماضٍ في الطريق ليعلمه الله من تأويل الأحاديث”.

واستمر هذا التمكين عندما جَعل من السجن منصةً لتبليغ رسالته، وهو يقول: ﴿يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾.

وتواصل التمكين في حياة يوسف وهو يأخذ مكان عزيز مصر ومكانته، بما آتاه الله من الحكمة ومن تأويل الأحاديث. فقال الله تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)﴾.

وكذلك كان الحال في أمر دعوة النبي ﷺ إذ جاء التمكين في أحوال وصور مختلفة:

فكان منها صورة الحماية والمنعة، وصورة القدرة والمكنة في تبليغ الدعوة، وصورة التأييد والنصرة:

فكان امتناعه بعمه أبي طالب وهو يبلغ رسالته صورة من صور التمكين.

وكذلك كان التمكين بعد إسلام عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب عندما خرجت الدعوة من السرية إلى العلنية.

وكانت هجرة الصحابة إلى الحبشة، وما وجدوا فيها عند النجاشي من المنعة والحماية والإكرام والرعاية صورة من صور التمكين.

وفي تمزيق صحيفة المقاطعة صورة من صور التمكين.

ثم كانت بيعة العقبة الأولى صورة أخرى من صور التمكين، حيث قال فيها ابن إسحاق: “فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه، وإعزاز نبيه ﷺ، وإنجاز موعده له، خرج رسول الله ﷺ في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على قبائل العرب”.

وروى ابن إسحاق عن عبادة بن الصامت، قال: “كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلا، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض الحرب، على أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف. فإن وفيتم فلكم الجنة”.

وكان من نتائج هذا التمكين أن أرسل النبي ﷺ مصعب بن عمير ليقيم أول جمعة في الإسلام، ولينشر الإسلام في قبائل المدينة، ليصبح أهلُها أنصاراً لله تعالى ولرسوله ﷺ.

ثم كانت بيعةُ العقبة الثانية التي مهَّدت للتمكين في صورة دولة إسلامية على أرض المدينة، ومما يجدر ذكره هنا أن التمكين للنبي ﷺ في المدينة قد سبقَ هجرتَه إليها، وعندما هاجر ﷺ وجد عناصر التمكين قائمة بانتظاره.

ثم تواصلت مراحل التمكين في المدينة بعد ذلك، من الهجرة إلى معركة بدر، ثم إلى غزوة الخندق، حيث قال النبي ﷺ: “الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم” (رواه البخاري)،

ثم مرحلة صلح الحديبية، ثم مرحلة الفتح، التي قال الله تعالى فيها:  ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)﴾.

 

صور التمكين في دعوة الإخوان المسلمين:

حدد الإمام الشهيد حسن البنا في رسائله أهدافَ جماعة الإخوان المسلمين، وتتلخص بإنشاء الفرد الصالح، ثم الأسرة الصالحة، ثم المجتمع الصالح، ثم الحكومة الصالحة، ثم الأمة الصالحة، ثم الدولة الصالحة، ثم المجتمع الإنساني الصالح.

وجعل التربية الصالحة الوسيلة الأهم في تحقيق هذه الأهداف، وقد كان الإمام يعلم بأن هذا الطريق طويل، لا تصلح معه العجلة، ولا العنف أو استخدام القوة، ومن أجل ذلك جاءت وسائل التربية في جماعة الإخوان المسلمين تُعنى بالإنسان منذ طفولته الأولى، وبالرجل والمرأة، وشملت هذه التربية جميع أعضائها حتى القيادات، وجعلت الجماعة لكل فرد من أفرادها محضن تربية يتلقى فيه فكر الجماعة الشامل، والسلوك الإسلامي القويم، والعمل المتواصل الدقيق، والتضحية التي لا تعرف الكلل ولا الملل.

وقد نشأت على هذه التربية المتكاملة في نواحيها المختلفة – العقدية والفكرية والنفسية والجسمية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية – أجيالٌ تواصلت في حمل هذه الدعوة، والمحافظة على الصبغة العامة للإسلام، والفكرة الكلية لهذا الدين، وقد اتصف بهذه الصبغة جميعُ من انتمى إلى هذه الدعوة، والتزم بمنهجها، ولا أدل على ذلك من أنَّ شخصية الأخ المسلم قد تميزت بسَمْتها وصِبغتها وسلوكها رغم اختلاف البيئات والمجتمعات والأعراق واللغات.

فقدمت عبر تاريخها الطويل نماذج حية من القدوات البشرية، من العلماء والمفكرين والمصلحين والقادة والمجاهدين والشهداء.

وقد أسهمت هذه الدعوة المباركة في نقل الفكرة والتنظيم من حالة الجماعة إلى حالة المجتمع، فكثر أنصارها ومؤيدوها وجماهيرها، فلم تعد محصورة في أفرادها المنظمين فيها، بل تجاوزت هؤلاء الأفراد إلى المجتمعات العامة في جميع جوانب الحياة الاجتماعية والسياسة والاقتصادية والثقافية والإعلامية، وغيرها.

وما كان لها أن تحقق ذلك إلا بعد أن حققت أبهى صورة من صور التمكين، وهي توطين الدعوة في مختلف بلاد العالم، حتى لا يكاد يوجد مجتمع بشري إلا وظهرت فيه هذه الدعوة، وأخذت مكانها ومكانتها، وترسخت على يد أبناء هذه الأقطار والشعوب، فلم تعد دعوة طارئة أو مهاجرة، وقد فرضت وجودها في أقطارٍ كان من الصعوبة بمكان نشر الفكرة الإسلامية فيها، كالمجتمعات الغربية والإفريقية.

وكان لهذا التوطين الأثرُ الكبير في تقريب الإسلام إلى هذه الشعوب والمجتمعات، وتقديمِه بأبهى حلة من الوسطية والاعتدال والشمول والعالمية. وكان لهذا التوطين الدورُ البارز في إنشاء المؤسسات المختلفة في جمع نواحي الحياة.

 

شاهد أيضاً

د علي محمد الصلابي يكتب :ليلة النصف من شعبان.. أحكام وفضائل

حرص السلف الصالح أشد الحرص على الأوقات، خصوصا فيها الأعمال التي حباها الله تعالى بمزيد …