د. محمد الصغير يكتب:جمال الجمل لماذا رجع، وفيم اعتقل؟

الغربة كربة، ومرارتها لا تغادر الحلق، وتزداد وطأتها إذا كان الإنسان مرغما على مفارقة وطنه والبعد عن ملاعب صباه، وهي كشأن التجارب الحياتية يصعب أن يدركك كنهها أو يسبر غورها من لم يكابدها، لكن يكفي المتأمل المتدبر أن يدرك كثيرا من هذه المعاني إذا طالع القرآن الكريم الذي جعل مفارقة الأوطان تأتي مع قتل النفس في نسق واحد

(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ۖ )*، وجعل الشارع الحكيم مدافعة الإكراه على مغادرة الأوطان، أولى ما تبذل فيه المهج وترتخص فيه الأنفس *(قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ )

ولعل الذين يقللون من التشبث بتراب الوطن بمعناه العام، لا يدركون أن تراب الوطن على الحقيقة شفاء من الأدواء والأسقام، فقد كان يداوي به رسول اللهﷺ كما في حديث أم المؤمنين عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ لِلمَرِيضِ (بِسْمِ اللهِ، تربَةُ أَرْضِنَا، بِرِيقةِ بَعْضِنَا، يُشْفَى سَقِيمُنَا، بإِذْنِ رَبِّنَا).

ومعنى الحديث: أنه يأخذ من ريق نفسهِ على أصبعهِ السبابة، ثم يضعها على التراب فيعلق بها منه شيء فيمسح به على الموضع الجريح أو العليل، ويقول هذا الكلام في حال المسح. انظر:(شرح النووي على صحيح مسلم) (14/ 184)، و(فتح الباري) (10/ 208)، و(زاد المعاد) لابن القيم (4/ 186، 187).

 

وتمثل هذه الواقعة أول اختبار حقيقي لمقولة السيسي التي أطلقها قبل أيام ترحيبا بالمعارضة “على المقاسات العسكرية”

وكما توجد ظاهرة “فوبيا” الخوف من الأدوار العليا وغيرها، توجد فوبيا الغربة عند أناس لا يقدرون على تحمل آلام البعد عن بلادهم*، ويتجلى هذا عند أصحاب المشاعر المرهفة والعواطف الجياشة، ويتأكد الأمر مع تقدم السن، وأحسب الكاتب جمال الجمل من جملة هؤلاء، وهو أحد رموز الكتابة والصحافة في مصر، وكل من يتابع كتاباته يدرك أنها ليست من قبيل المقالات الصحفية المجردة، وإنما مزيج من الكتابة والفلسفة، ونظرا لأنه يكتب قناعاته التي تعبر عن مبادئه، مُنعت مقالاته من النشر في ظل الرقيب العسكري الذي يتحكم في المشهد المصري، فاتخذ قرارا بالهجرة الطوعية واختار تركيا كمنفى اختياري له، وخرج من مصر بطريقة طبيعية وبدأ يؤدي دوره من خلال وسائل الإعلام المتاحة، وسط ترحيب وحفاوة تليق بتاريخه الصحفي، وكما اتخذ قرار الهجرة بنفسه اتخذ قرار العودة كذلك، لأنه غير مطلوب على ذمة قضايا ولم توجه له أي تهم، والكل يعرف أنه صحفي مستقل عن أي عمل حزبي أو تنظيمي، ومع ذلك استقبله النظام بإخفاء قسري دام خمسة أيام، بحث فيها ما يمكن أن يلفقه له من التهم، وانتهى إلى عرضه على النيابة التي أمرت بحبسه خمسة عشر يوما دون إعلان رسمي عن ذلك حتى كتابة هذه السطور.

وتمثل هذه الواقعة أول اختبار حقيقي لمقولة السيسي التي أطلقها قبل أيام ترحيبا بالمعارضة “على المقاسات العسكرية” ليثبت أن من تربى على ثقافة “أطع الأوامر ولو غلط” و “نفذ ثم تظلم” و “كله تمام يا افندم”، لا يمكن أن يقبل أي نوع من المخالفة أو المعارضة.

 

لن يقبل النظام الحالي إلا بمعاون أو مداهن، فهو يدرك أنه جملة عارضة، وما زيادة البطش إلا علامة تنامي الخوف

كما نسفت عودة الجمل مقولة “انزل وعارض من مصر” ويبدو أنهم بصدد استبدالها بحكمة حمدين صباحي صديق جمال وزميله الذي عبر عن اعتقاله بقوله: “إن الحياة في زنزانة في مصر خير من الحرية خارجها، وأنا وجمال مستريحان الآن” دون أن يسأل عن سبب اعتقاله أو الجرم الذي اقترفه، ولا أدري كيف شعر براحة صديقه في محبسه، وهو يكتب مرتاحا من مطبخ بيته؟ وكأن الحرية ومصر ضدان لا يجتمعان!

ومن العجائب أن الأسبوع الذي اعتقل فيه الأستاذ جمال أكمل فيه د. عبد المنعم أبو الفتوح ثلاث سنوات في السجن دون محاكمة في قضية معينة، وهو أيضا زميل نضال لحمدين صباحي من أيام الجامعة إلى الترشح لرئاسة الجمهورية في أجواء الحرية بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، وبما أن ظروف اعتقال عبد المنعم أبو الفتوح متشابهة مع اعتقال جمال الجمل فهنيئا لهما السجن مع تقدم السن وتكالب المرض ماداما في أحضان “طرة” على مذهب الأستاذ حمدين!

هل النظام الذي يقتل بالظن كما فعل مع الإيطالي ريجيني، ثم يقتل خمسة مصريين للتغطية على الجريمة الأولى، ويعتقل تحسبا ومكايدة كما فعل مع الصحفي محمود حسين، أو تصفية حسابات وانتقاما من الأقارب كما فعل مع ابنة الإمام القرضاوي وشقيقة د. محمد محسوب، وقائمة طويلة من النساء والبنات المعتقلات من شتى الاتجاهات، يمكن أن تفترض فيه أي درجة من درجات الرشد، أو حتى السماح بالمعارضة الصورية أو المستأنسة؟

لن يقبل النظام الحالي إلا بمعاون أو مداهن، فهو يدرك أنه جملة عارضة، وما زيادة البطش إلا علامة تنامي الخوف، فيحسبون كل صيحة عليهم، حتى لو كانت حبرا على ورق، يكتبه جمال الجمل المعارض بالورقة والقلم.

شاهد أيضاً

وائل قنديل يكتب : عبّاس وغانتس: إجماع فاسد أم انقسام حميد؟

لا ينتعش محمود عبّاس، وتدبّ فيه الحياة والقدرة على استئناف نشاطه في “مقاومة المقاومة” إلا …