د. وصفي عاشور أبو زيد يكتب: العلامة محمود عبد الرحمن .. تحية علمية قلبية

يتنازعُ الكاتبَ حين يكتب عمن يحب أمران: أن ينظر إليه بعين الرضا التي ترى كل شيء حسنًا؛ فتكلّ عن العيوب وتحجبها سُتُرُ الإعجاب، أو يهضمه حقَّه ويُدخله في دائرة الاتهام والظلم كي يبدو موضوعيًّا ولا تكون شهادته مجروحة بكتابته عمن يحب.

 وليس من العدل أن يَضيع الحقُّ وتُظلم الحقيقة في سراديب التكلف لِرَوْمِ الموضوعية وزعم قصد الاستقلالية.

وإن أستاذنا وشيخنا الأستاذ الدكتور محمود عبدالرحمن عبدالمنعم، العالم العامل العابد الزاهد الأصولي الفقيه المتفنن في علوم الشريعة والإسلام، وبخاصة أصول الفقه، حين أريد القول في صداقته أو أخوته أو حبه أو علاقتي العلمية به أجدني كالمهموم، إذا ابتدره همٌّ تداعت له الهموم من كل جانب فأضع القلم وأرفعه، وأكتب وأشطب؛ لأن المعاني تتنادى أمامي وتتناوش القلم، وتحير الخاطر والخيال، فأعرض عن القول مخافة التقصير في حقه أو خشية الغلو في وصفه.

إنه العلامة الأصولي البارع المتمكن، الذي لا يعرفه كثير من المتخصصين حتى في علم الأصول؛ لزهادته وورعه، وضعف رغبته في طبع كتبه أو الظهور هنا وهناك، لكنني أزعم – وبعض الزعم حق – أنه أصولي ندر وجوده في عصرنا؛ فهو حين يتحدث في الأصول أو يكتب فكأنما يستجمع ثلاثة عشر قرنا من تاريخ العلم وقضاياه ومسائله، ويتتبع المصطلحات الأصولية وتطورها واختلاف دلالاتها ومعانيها من عصر لآخر، ومن كتاب لآخر، ومن كاتب لآخر، وحسبك أن تعرف أن له منظومة في علم الأصول، وأنه وقف على عشرات الأوَّليات الأصولية عبر رحلة بحثية تتبعية استقرائية جهادية طويلة، وصبْر كصبر أيوب عليه السلام، في المكث على الكتب والتفرس بها، ودقة ملاحظة حركة المصطلحات والاصطلاحات وتطورها بين الكتب، حتى رسا استقراؤه – ضمن ما رسا – على هذه الأوَّليات: متى ذُكرت أول مرة، ومَن أول من قال بها، وكيف انسربت في كتب الأصول وانحدرت إلينا، مع رصد التطور الدلالي والاصطلاحي لها عبر مسيرتها.

محمود عبد الرحمن

إن عالمنا الجليل قد استولى على الأصول بمعناها الواسع حتى بلغ مداها – وإن كانت الأصول أكبر من أن يستولي عليها أحد – فالأصول عنده مادة للتعبير والتفعيل والتشغيل، وليست مادة للتنظير والترتيب والتنسيق فقط، فهو قد قرأها قراءة البصير المتروي المتأمل المدقق المحقق ليقف على خفي الفروق بين المصنفات، فهذا للعرض، وذاك لإقامة الأدلة والحجاج، وهذا لإنتاج المعرفة الأصولية، وغير ذلك، كما عمل في قراءته للأصول على ضم الأشباه والنظائر؛ مستخدما في ذلك بصيرة نافذة، وصبرًا عجيبا في التتبع والضمّ، مستلهمًا قواعد الجدل الأصولي وآداب البحث والمناظرة، ومستوعبًا تمامًا سياقات الأفكار والرجال والكتب في محاولةٍ للكشف عن مقصود الكاتبين، وفهم مرادات الأفكار وما ورائياتها.

لقد دَرَسْنَا رسالة الشافعي عليه في ظلال كرم بيته، فقرةً فقرة، وكلمةً كلمة، ومعنى معنى، وكتابَ “الضياء اللامع شرح جمع الجوامع”، والقوانين الفقهية، و”الضروري” لابن رشد، و”شرح أصول الفقه” لأبي النور زهير، وغيرها، فوجدته نسيجا وحده، لا يذكِّرك بأحد، ولا يذكرك به أحد، وكثير من الأصوليين في عصرنا قوالب تختلف أحجامها وأشكالها، ولكنها صورة مستعارة لا تفتأ تستعير مادة علمها وعملها.

ثم إنه لا يقف عند هذا الحد من التتبع والاستقراء والكتابة بقوة ثلاثة عشر قرنا من التراث الأصولي، ولا حتى عند باب جمع الأشباه والنظائر واستقراء المعاني، بل تتولد – أو تولدت بالفعل – لديه، عقلاً ونفسًا، ملكةٌ أصولية راسخة، تنشئ معانيَ جديدة محفوفة بإضاءات فياضة أنتجتها المعاناة والصبر والاستقراء والتتبع بما لا نجده مسطورا في الكِتَاب، ولا مستورا في عقول الكُتَّاب .

حفظ القرآن الكريم، وحفظ الكتب الستة في فترة قصيرة معجزة، وحين يقرأ القرآن أو يقرأ السنة، لا تكون القراءة كما نقرأ نحن، ولكنها قراءة ربانية علمية أصولية فقهية إيمانية مغموسة في الفوائد العلمية واللطائف الفقهية والنظرات الأصولية بما تشعر معه أن النص أصبح خلقا آخر، وبما يجلي به في النص  ويكشف فيه من معانٍ وملامح لم تكن َّ لك أو ترد إليك في غير مجالسته والتعلم عليه، حتى إنك إن سألته عن أمر دنيوي، أو مشورة حياتية، وأجابك أو أشار عليك لم يخلُ ذلك من فوائد علمية ولطائف أصولية فقهية، ومراجع علمية خفية لم تسمع بها من قبل، فلا غرو أن أُعطيَ من علم الأصول ملك سليمان عليه السلام، فإذا زحف علمه بكتائبه وجيشه خضع له الموافق والمخالف، وانقاد له طوعًا من أبى واستكبر.

اقرءوا كتبه تجدوا الرجل الذي حدثناكم عنه، اقرءوا منها إن شئتم على سبيل المثال وليس الحصر:

1- معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية ( ثلاث مجلدات ), نشر دار الفضيلة بالقاهرة سنة 1999م

2- معالم العقيدة الإسلامية,  ط/ دار نهر النيل بالقاهرة  سنة 1992م

3- دلالة السياق وأثرها في فهم النصوص . ط / دار آمون للطباعة بالجيزة سنة 2001م

4- دلالة المنطوق والمفهوم وأثرها في بناء الأحكام الشرعية, ط/ دار الاتحاد التعاوني للطباعة سنة 1998 م .

5- المصالح المرسلة وموقف الأصوليين من الاحتجاج بها, ط/ دار آمون للطباعة بالجيزة سنة 1999م

6- الاختلاف وأثره في اجتهاد المجتهدين,  ط/ دار آمون للطباعة بالجيزة سنة 2000م .

7- تحقيق كتاب: جامع أحكام الصغار للإمام محمد بن محمود الأسروشني الحنفي, نشر دار الفضيلة (في حدود سنة 1993م )

8- التصويب والتخطئة في الاجتهاد, ط/ دار آمون للطباعة بالجيزة سنة 2002م.

بخلاف عدد كبير من الأبحاث العلمية.

ومن المعلوم أن المشتغلين بعلم الأصول يتصفون بالصرامة في التعامل، والجدة في الطباع، والدقة في الألفاظ والمواعيد، والحزم في الأمور، وهي صفات يورثها علم الأصول للمشتغلين به، لكن شيخنا جمع إلى هذا، القلب الكبير، والعين الباكية؛ فهو رجلٌ سامٍ عن الاسفاف رغم معاناته العلمية الرسمية العجيبة في طريقه للأستاذية، فإذا جلست إليه فهو مشرق كالنجم، صافٍ كماء المُزْن، واضح كالمرآة المجلوّة، ثم إذا فرح فهو فجر باسم وأمل يتدفق وحلم يتحقق، فإذا رأى طفلا باكيا أو تائها أو حالة إنسانية لا يبدو لك ذلك الأصولي الحازم والحاسم، وإنما يتكشف عن قلب طفل بريء يبكي للمشاهد الإنسانية وأصحاب الحاجات البشرية، ويجتهد في نشرها والدلالة عليها … كلُّ هذا جعل له من اسمه أوفر الحظ والنصيب؛ فهو محمود السيرة والمسيرة، وعبدٌ للرحمن عبادةً واستكانة، فانعكس ذلك عليه رحمةً بالضعفاء وأصحاب الحاجات، وهو عبدٌ للمنعم بالشكر والعمل بالعلم وتعليمه وبذله حتى غدا هو بنفسه نعمةً من نعم الله تعالى على العلم وطلابه!

في يوم ميلاده الثالث والخمسين 28 فبراير – وإن كان متأخرًا – أهدي له هذه الكلمات مصحوبة بالدعاء له والشوق للجلوس إليه والتعلم منه، شاكرا له سماحه بالتواصل معه، وليغفر لي ما كتبته عنه مما أعلم أنه لا يحبه، فقد سطرته وأنا واقع بين واجب الوفاء وخشية الوقوع في الغلو أو التقصير، ولم أرد به مدحًا يقصم الظهور، وإنما قصدت إنزال الناس منازلهم، والأمور بمقاصدها.

شاهد أيضاً

وائل قنديل يكتب : عبّاس وغانتس: إجماع فاسد أم انقسام حميد؟

لا ينتعش محمود عبّاس، وتدبّ فيه الحياة والقدرة على استئناف نشاطه في “مقاومة المقاومة” إلا …