“في ظلال القرآن”..عندما يتحول النص إلى واحة

“في ظلال القرآن”؛ تفسير شاء صاحبه أن يفرَّ تواضعًا من أن يهبه هذه التسمية، مع أنه في الحقيقة تفسيرٌ من طراز فريد، تفسير يُدرك تلاحم النص الذي يقوم على رعايته والعناية به والحدب والحنو عليه، وهذا النص المتلاحم هو القرآن الكريم.

وهو تفسير يدرك أنه قام على بيانِ ما في القرآن الكريم من تصوراتٍ أراد الله سبحانه أن تقود خطوات البشرية الضالة نحو السعادة، فلقد تسلَّم الإسلامُ القيادة بهذا القرآن, وبالتصور الجديد الذي جاء به القرآن، وبالشريعة المستمدة من هذا التصور فكان ذلك مولدًا جديدًا للإنسان أعظم في حقيقته من المولد الذي كانت به نشأته.

لقد أنشأ هذا القرآن للبشرية تصورًا جديدًا عن الوجود والحياة والقيم والنظم، كما حقق لها واقعًا اجتماعيًا مزيدًا كان يعز على خيالها تصوره قبل أن ينشئه لها القرآن إنشاءً.

تفسير حركي

وأهم سمة تميز كتاب سيد قطب أو تفسيره هي أنه تفسير حركي، وأرجو أن نقف مليًا أمام هذا اللفظ الذي من أجله قال في ختام مقدمته ما نصه: “هذه بعض الخواطر والانطباعات عن فترة الحياة (أي حياته هو) في ظلال القرآن”.

وهذان اللفظان وردا في هذا السطر الواصف لعمله في التفسير لا يصح أن يفسر ذلك التفسير الشائع بين الناس، فالخاطر نحو الانطباع هنا ليس كلامًا خاليًا من المنهج، وإنما المراد بهما في تعبير سيد قطب هو إرادة الإفادة من معاني القرآن الكريم في خدمة الواقع، وبيان التصورات الجديدة للقرآن الكريم ومحاولة قياس واقع الحياة المعاصرة بها، لنرى مدى المفارقة القائمة في حياة الناس وواقعهم عندما خاصموا النص الكريم، وجافوه، وابتعدوا عنه.

ولستُ أنفي هذا الكلام من باب الإعجاب بتفسير سيد قطب، بل من باب الدرس الموضوعي العلمي لذلك التفسير الفريد، ومن باب المعرفة بطبيعة سيد قطب العلمية.

يقول الدكتور إبراهيم عوض في كتابه (من الطبري إلى سيد قطب؛ دراسة في مناهج التفسير ومذاهبه) (ص 265) : “وليس التذوق الأدبي للنص القرآني عند سيد قطب مجرد نزعة انطباعية غامضة تعتمد على الوجدان الزائد وحده، كما يقول بعض الدارسين، بل يحكم هذا التذوق عنده عدة ضوابط”.

وما يهمنا في التعقيب هو التقاط أنَّ ثمة ضوابط تحكم ما سمَّاه هو نفسه خواطر أو انطباعات.

وإذا كان الدكتور إبراهيم عوض جعل منهج سيد قطب في تفسيره قائمًا على منهج التذوق الأدبي، فلأنَّ الباحث الكريم التفت إلى عددٍ من الأمور تجلَّت في ثنايا التفسير كله وهي التاريخ الفكري والثقافي لسيد قطب، واشتهاره بممارسة النقد الأدبي تنظيرًا بكتابه الرائد (في أصول النقد الأدبي) من جانب وتطبيقًا بدراسته عن كثير من الآباء الذين أسهموا بكثير من أعمالهم الأدبية شعرًا أو رواية.. إلخ.

كما أنه شاعر كان قريبًا من الأصوات الوجدانية (الرومانسية) في تاريخ الحركة الشعرية في مصر، ومشايعته للعقاد، وانتصاره له أمر معروف متداول.

هذا كله بالإضافة إلى اللغة البيانية الرائعة التي كَتَبَ بها تفسيره، لدرجة يمكن القول معها: إنَّ تفسير قطب أو وقفاته وخواطره التي سمَّاها في ظلال القرآن يمكن أن تعد نصًّا أدبيًا له عناصر الشعرية أو الأدبية من مجاز وتصوير وخيال.

لكننا مع إقرارنا ببروز هذه السمة الأدبية الطاغية على التفسير إلا أننا نرى أن نصنفه تحت قسم جديد هو قسم “التفسير الحركي”.

ونقصد بهذا المنهج قراءة النص الكريم، وبيان ما فيه، أو تفسيره في ضوء الهدف الذي أُنزل من أجله، وهذا في تصور سيد قطب ضغط حركة الكون والإنسان فيه، ورد البشرية الموغلة في شعب الضلال إلى حركة يحكمها تصور إرادة الله سبحانه.

وهذه الحركة أمرٌ ظاهر من أول سطور التفسير، يقول سيد قطب: “عشتُ أتملى في ظلال القرآن، ذلك التصور الكامل الشامل الرفيع النظيف للوجود لغاية الوجود كله، وعناية الوجود الإنساني، وأقيس إليه تصورات الجاهلية التي تعيش فيها البشرية في شرقٍ وغربٍ، وفي شمالٍ وجنوبٍ، وأسأل كيف تعيش البشرية في الدرك الهابط، وفي الظلام البهيم وعندها ذلك المرتع الزكي، وذلك المرتقى العالي، وذلك النور الوضيء”، وكل تلك الأوصاف إنما المقصود بها هو القرآن الكريم.

وسيد قطب دائم التذكير بعصابات المضللين وجماعات المخادعين الذين يعادون البشرية عندما يضعون تصورات مخالفة لمنهج الله ثم يقهرون هذه البشرية على السير في هذه الدروب المظلمة التي تنال من إنسانيتهم.

وهو يرى من منظور المنهج الحركي هذا ضرورةَ النظر إلى قضايا الوجود مرتبة وفق أولويات محددة أتى في قمتها ما سمَّاه التسمية الموفقة بقضية الوجود الكبرى، وهي توحيد الله سبحانه التي تكفَّل القرآنُ المكي وهو أكبر في تعداد سوره من القسم المدني، وأمر ذلك ميسور التفسير؛ لأنه بمثابة الأساس الذي يقوم عليه بيانُ الجماعة المؤمنة في ضبط حركتها في الحياة، ثم تأتي قضية إقامة شريعة الله سبحانه في الأرض.

فالاحتكام إلى منهج الله في كتابه ليس نافلةً ولا تطوعًا ولا موضعَ اختبار، إنما هو الإيمان والأمر، والأمر إذنْ جد، إنه أمر العقيدة من أساسها، ثم هو أمر سعادة البشرية أو شقائها، إنَّ هذه البشرية وهي من صنع الله لا تفتح فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله، ولا تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يخرج من يده سبحانه وتعالى، وقد جعل في منهجه وحده مفاتيح كل مغلق, وشفاء كل داء ﴿وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ﴾ (الإسراء: من الآية 82).

من جانب ثانٍ فإنَّ آثار ثقافة سيد قطب الأدبية والنقدية تبدت في مجموعةٍ من الآليات والإجراءات حافظ عليها في طول تفسيره.

وحدة موضوعية

من أهم هذه الإجراءات النظر إلى السور من باب إن كل سورة تمثل كيانًا متكاملاً متناسقًا مترابطًا، أو ما يُسمَّى بلغة النقد الأدبي هناك وحدة موضوعية تفعل عملها في تلاحم أجزاء السورة كلها، ومن أجل ذلك حرص سيد قطب في مفتتح كل سورة، وقبل التعرض لبيان تفسير الآيات بشكلٍ تفصيلي أن يكتب كلمة افتتاحية تمثل الغرض أو الموضوع الذي تمثله السورة أو تحاول أن تُعالجه من وجهةِ نظره مدعومة بالأدلة من لغة السورة.

فهو يهتم في كل سورة قرآنية بالعثور على الخيط الذي يربط آياتها كلها بعضها ببعض، وهو يسميه “المحور” الذي تدور عليه آيات السورة وموضوعاتها ويجعل منها وحدة فكرية وموضوعية.

وفكرة المحور هذه فكرة تؤكد له ما سميناه بحركية التفسير، يقول في مفتتح سورة الدخان (44 مكية): “شبه إيقاع هذه السورة المكية بفواصلها القصيرة، وقافيتها المتقاربة، وصورها العتيقة، وظلالها الموحية.. شبه أن يكون إيقاعها مطارق على أوتارِ القلب البشري المشدود”.

ويكاد يكون سياق السورة أن يكون كله وحدة متماسكة، ذات محور واحد، تشد إليه خيطها جميعًا، سواء في ذلك القضية، ومشهد القيامة ومصارع الغابرين والمشهد الكوني، والحديث المباشر عن قضية التوحيد والبعث والرسالة، فكلها وسائل ومؤثرات لإيقاظ القلب البشري واستجاشته لاستقبال حقيقة الإيمان حية نابضة كما يبثها هذا القرآن في القلوب”.

ويبدو من هذا المفتتح الذي حرص في كل سورة على الوفاء به، وفاءً لبيان تلاحم النص, مدى ما احتشد به سيد قطب من معارف جعلت من تفسيره هذا تفسيرًا مؤسسًا على العلوم اللازمة لأي نشاط تفسيري للكتاب العزيز، فما ذكره من علاماتٍ في المفتتح من قصد الآيات… إلخ هي علامات رصدها علماء علوم القرآن، مما يذكرنا بنفي أن يكون هذا التفسير مجرَّد انطباعات بالمعنى المتداول بين الناس.

 

حياة وفق المفهوم القرآني

 

أضف إلى هذا إقامة الحياة وفق المفهوم القرآني، وتوظيف كافة الوسائل لإقامة هذه الحركة الإنسانية متناسقةً مع التصور الإيماني كما يريده القرآن الكريم.

على أنَّ الحرص على فكرة الوحدة المتماسكة، والمحور الواحد، ليست جديدة على النشاط التفسيري للنص الكريم، فعلماء علوم القرآن الكريم يعرفون علمًا هذا هدفه هو “علم التناسب”، أو تناسب الآيات والسور وهو علم يبحث في تعاقب الآيات والسور بهذا النسق في المصحف الشريف، وهو علم يقرر أولاً النص كله وحدة متلاحمة، وأن سورة بما فيها من آيات تربطها حكمة ترعى مبدأ التلاحم, ومن أشهر من كتب في هذا المجال هو برهان الدين البقاعي (885هـ)، وقد وصل إلينا تفسيره “نظم الدرر في تناسب الآيات والسور”، وقد طبع في اثنين وعشرين مجلدًا في حيدر أباد بالهند.

وما لاحظه الدكتور إبراهيم عوض من أنه كثير الذكر لأمور السياسة والحضارة يؤكد ما سميناه منهجًا حركيًا يسعى لضبط حركة الإنسان في الكون بتصور القرآن الكريم باعتباره مفتاح القفل الذي يمكنه التعامل مع الإنسان، الذي هو خلق الله.

على أني أُحب أن أقول إنَّ تفسير سيد قطب ينبغي أن يقرأ في ضوء أمرين أساسيين حتى لا يكون أداة لسوء الفهم، وسوء الاستنباط وهو ما حدث في مراحل تاريخية محددة، وهو بريء من آثارها، فلم يكن سيد قطب باعتباره الجناح الضخم بعد حسن البنا في التنظير للإخوان داعية عنف أو إرهاب.

الظلال .. كتاب دعوة

الأمر الأول: أن تفسير سيد قطب باعتباره تفسيرًا حركيًا لا يصح أن يُقرأ إلا في استحضار مقولة (الدعوية) بمعنى أن كتاب سيد قطب ليس كتاب أحكام، وليس هو معنيًا بهذا لا في المقام الأول ولا حتى في المقام العاشر، وإنما هو كتاب (دعوة) ومنطق الدعوة قائم على استثارة العاطفة وإرادة رد الجماهير إلى طريق الله.

وغير خافٍ أنَّ الجماهير الذين استقبلوا هذا التفسير أو كتب لهم هم جماهير عصرٍ تألَّبت عليه جماعات من المضللين وفق أقوال سيد قطب، والذي رأى أنهم ابتعدوا كثيرًا من تصور الله المراد من كتابه العزيز, ومن هنا فإنَّ كثيرًا من الألفاظ الاستبدادية والإنكارية ينبغي أن تفهم في ضوء مراد سيد قطب الدعوي الذي قد يكون فضفاضًا بعض الشيء من المنظور العلمي.

الأمر الثاني: أنه لا يصح قراءة هذا التفسير بمعزلٍ عن فكرة المحنة التي كان يعيش في أجوائها باعتبار موقعه التنظيمي من حركة الإخوان المسلمين، وهو الأمر الذي انتهى باستشهاده.

وأن آثار هذه المحنة جعلت عاطفته المتوقدة تشتعل عند كثير من صور عرض صور النار أو قصص الطغاة والمتجبرين في القرآن الكريم.

لكن يظل تفسير سيد قطب, استنباطًا من عنوانه, يرى في القرآن الكريم الماء النمير, والهواء الرطب العليل, والظل الوارف الظليل, إن طبقت أوامره في حياة أشبه بالجحيم أو على حد تعبير “أولفييه كاربيه” في كتابه “في ظلال القرآن رؤية استشراقية فرنسية”: “إن كتاب الظلال يقدم بما لا شك فيه البرهان والفكر والصفاء للمعارضة الإسلامية ضد كل نظام سياسي مستبد”.

وأساس هذا البرهان وهذا الفكر هو الرجوع إلى النص القرآني وتدبره، إلى محاولة استرجاع بيئة الواحة أو السعادة، ومن أجل ذلك كان الظلال!

أستاذ بكلية الآداب- جامعة المنوفية – مصر

شاهد أيضاً

د علي محمد الصلابي يكتب :ليلة النصف من شعبان.. أحكام وفضائل

حرص السلف الصالح أشد الحرص على الأوقات، خصوصا فيها الأعمال التي حباها الله تعالى بمزيد …