ديمة طارق طهبوب

قبل أن يطق عرق الحياء

مَن مِن النساء المتزوجات السعيدات إلا وما تزال تذكر ذلك المشهد بفرح وابتسام يوم أصر المأذون الشرعي أن يسمع موافقتها على الزواج واستلامها المهر المقدم, ووالدها أو وليها بجانبه وهي تكاد تغُص بريق الحياء وبالكاد تستطيع النطق؟

مَن مِن المتزوجات إلا وما تزال تذكر يوم وضع وليها يده بيد زوج المستقبل ليسلمها وهي حبة عينه أمانه على كتاب الله وسنة رسوله، وتحتفظ بحسب السن والسنين بصور ملونة أو بالأبيض والأسود لتلك اللحظة الحاسمة في حياتها يوم ارتبطت بفارس أحلامها؟

مَن مِن الزوجات إلا وما تزال تذكر تلك الجاهة الكبيرة من الأهل والأقارب والعشيرة والعم يمسكها بيد والخال باليد الأخرى والأخوة والأب وراءها يخفون دمعة تحاول التجلد على فراقها، والكل يمشي خلفها ومعها ليسلمونها إلى زوجها ويفتتحون معها أول خطوة إلى باب منزلها الجديد؟

مَن مِن الزوجات لم تعد إلى بيت أهلها وهي نفساء فيعتني أهلها بها وبزوجها ووليدها، خرجت من عندهم فردا واحدا وعادت بأسرتها فأصبح أهلها أجدادا وأخوالا وأعماما؟!، ومن ذاق معزة الحفيد سيعلم فرحة الولي بزواج ابنته أو أخته انتظارا لهذه اللحظة.

مَن مِن المتزوجات السعيدات إلا وقد أصبحت بنتا لعائلتين، ولذا قال معاوية بن أبي سفيان في مدحهن: “والله ما مرّض المرضى ولا ندب الموتى ولا أعان على الزمان مثلهن، ولا أذهب جيش الأحزان مثلهن، وإنك لواجد خالا قد نفعه بنو أخته، وأب قد رفعه نسل بنته”.

هذا هو مشهد الولاية في الزواج في أحسن صوره كما زال متعارفا عليه في أغلب الدول العربية، حيث الزواج في أسمى معانيه تآلف وتصاهر بين عائلتين، لا فقط بين زوجين بكل ما يحمله ذلك من التزامات التعاضد والتواصل، ولما كانت هذه وظيفة الزواج في المجتمع, نبه الإسلام إلى ضرورة وجود الكفاءة بين الرجل والمرأة وبين العائلات المتصاهرة، وأن يكون قرار الزواج مأخوذا بتراضي كافة الأطراف المعنية، فالمرأة لا تزوج نفسها كما تريد لها المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي تسعى لإلغاء الولاية، وفي ذلك تمييز إيجابي لها يحفظ كرامتها وحقوقها، ويظهر لزوج المستقبل أن من وراءها رجالا هي ابنتهم وأختهم ورَحمهم, ولها حق محفوظ عندهم لا يسقط بزواجها.

إن المرأة بطبيعة تكوينها عاطفية، وهذه ليست تهمة أو منقصة، وإنما هي فطرتها التي تؤهلها لإسباغ الحنان والمحبة على من حولها والقيام بأدوارها، وقد تساق بهذه العاطفة فلا ترى في الرجال ما لا يدركه إلا الرجال من صفات النخوة والمروءة وتحمل المسؤولية التي يحتاجها الزواج الناجح بقدر حاجته للحب، فوجود الولي يحفظ للزواج هيبته، ويزيد شعور الزوج بالالتزام الأخلاقي، فقد أخذ «ابنة عائلة» والتسمية بحد ذاتها ذات دلالة, فهو تزوج امرأة ذات أصل تعبت أسرتها في تربيتها ورعايتها، ولم تكن لتخلي مسؤوليتها عنها إلا وقد ضمنت، ضمن حدود العلم والقدرة البشرية، ما يسعدها مع من يسعدها.

إن فرض الولاية في الإسلام وقوانين الأحوال الشخصية المستمدة من الشريعة الإسلامية شُرع أول ما شُرع لحفظ حقوق المرأة كفرد وكجزء من أسرة، فمهمة الولي إشرافية، وهو مشروع شراكة لاختيار الأفضل، وإتمام الزواج لا يكون إلا برضى المخطوبة، فلا تُنكح الأيم حتى تُستأمر ولا تنكح البكر حتى تُستأذن، وقد أسقط الإسلام حق الولاية لمن يسيء ويتعسف في هذا الحق سواء برفض تزويج المرأة دون وجاهة أو إكراهها على الزواج، وجعل القاضي يحل محل الولي، وقد جاء في السيرة أن امرأة شكت والدها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أراد أن يزوجها من ابن أخيه دون رضاها، فلم يرض المصطفى ما فعله الأب وجعل قرارها بيدها فقالت: “فإني أجزت ما فعل أبي، ولكني أردت أن تعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء”.

وجعل الشرع للأم، وهي الأقرب إلى نفس ابنتها، دورا ورأيا في زواجها ليكفل معرفة رأي الفتاة وإنفاذ رغبتها، فجاء في التوجيه النبوي “آمروا النساء في بناتهن”.

إن الزواج في بلادنا العربية يعاني من تراجع في قيمته، فكثير من الشباب جعلوه تحليلا لقضاء شهواتهم الجسدية بالأشكال العرفية والتكنولوجية، كما يعاني من إساءة المتزوجين له الذين لا يرون فيه مشروع حياة يحتاج للمودة والصبر وكثيرا من التحمل والغفران ليصل إلى بر الأمان، فهو بالتأكيد ليس نزهة ولا حلما شاعريا.

يبدو أننا في الوطن العربي بحاجة إلى العودة والتمسك بكل القوانين والعادات التي جعلت من الزواج في حياة آبائنا وأجدادنا عروة وثقى لا تنفصم إلا بالموت.

لقد نصحت الكاتبة أحلام مستغانمي النساء بعد تجارب الحياة وبالرغم أنها من أديبات الحركة النسوية فقالت: “المرأة توقع بأصلها لا باسمها حتى يردعها أصلها، ثم تعلمي أن تضعي بينك وبين أي رجل اسم أبيك، لا تدخلي الحب مقطوعة من شجرة فيصبح الحبيب فأسك الآخر”.

الخطبة والزواج ليس استعراضا عاما ولا سيركا يحضره العامة يصفقون للممثلين ويمطرونهم باللايكات أو الاستهجان! إن الشيء كلما غلا ثمنه وزادت قيمته انحصر بين قلة يقدرونه فلا يصل إليه كل متطفل و”بصاص” راغب في متعة وتسلية.

قال آباؤنا قديما «خلي العسل في جراره لتجيه أسعاره» والعسل لا يخبث أبدا مهما طال به المقام وكذلك الحياء والفضيلة وكل فتاة تحترم نفسها وأهلها، ورجل يقدم الاحترام قبل الزواج حري به أن يبذله فيما بعد.

شاهد أيضاً

منظمات تحذر من وضع المسلمين على القوائم السوداء في أوروبا بتواطؤ الإمارات

حثت منظمات مجتمع مدني إسلامية وناشطون حقوقيون الحكومات الأوروبية على اتخاذ إجراءات ضد الإسلاموفوبيا المتصاعدة …