لا تكن إمعة .. فتضيع دنيا وأخرى

هناك أشخاص يعيشون بفلسفة عجيبة غريبة، يرون فيها تحقيق مصلحة لذواتهم، هذه الفلسفة تقوم على مسك العصا من الوسط، فهم مع هؤلاء وهؤلاء، مع الأضداد في وقت واحد، وشركاء المختلفين في لحظة واحدة.

هؤلاء القوم (الإمعيون، أو الإمعات) موقفهم محير لهم ولغيرهم، إنه موقف ناشئ عن الجهل بالحق، ونقص في القناعة بالصواب، وحرص على منفعة أو خوف من مضرة.

والقرآن الكريم تحدث عن أصحاب هذا الخلق فقال: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} (النساء:143)، قال أبو السعود: أي لا منسوبين إلى المؤمنين ولا منسوبين إلى الكافرين، أو لا صائرين إلى الأولين ولا إلى الآخرين.

        وقد صوّر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصورة المقززة بقوله كما في صحيح مسلم:” مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة”.

وهذه صورة من صور الوسطية المذمومة، تلك الوسطية التي لا تحوز الشرف ولا الأفضلية، لكنها مالت إلى الخسة، يقول سيد قطب موضحا هذه الصورة المقيتة: ويستمر السياق في رسم الصور الزرية المنفرة، وموقف الذبذبة، والأرجحة، والاهتزاز، وعدم الاستقرار والثبات في أحد الصفين: الصف المؤمن أو الصف الكافر.. موقف لا يثير إلا الاحتقار والاشمئزاز كذلك في نفوس المؤمنين. كما أنه يوحي بضعف المنافقين الذاتي. هذا الضعف الذي يجعلهم غير قادرين على اتخاذ موقف حاسم هنا أو هناك.. ولا على المصارحة برأي وعقيدة وموقف.. مع هؤلاء أو هؤلاء.(في ظلال القرآن ج2/ ص784).

        وقد حذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التذبذب والإمعة، فقال كما في الصحيحين: “تجدون شر الناس ذا الوجهين: الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه” ، وأخبر عن الصورة المقززة التي يبعث بها صاحب الوجهين بأن “من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان” أبو داود.

(الإمعة) .. حثالة الخلق:        

        وهذه النوعية وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالحثالة؛ ففي صحيح البخاري من حديث مرداس الأسلمي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:” يذهب الصالحون الأول فالأول، ويبقى حفالة  (حثالة) كحفالة الشعير أو التمر، لا يباليهم الله بالة”.

وعدها علي بن أبي طالب أردأ أنواع البشر حين قال لكميل بن زياد: الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع؛ أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق.

        إن الإمعة امرؤ, ضعيف دينه وشخصه وعقله وفكره.. إنه يحكم على نفسه بالذل والتبعية، فلا رأي له ولا شخصية, وفي النهاية فهو يحكم على نفسه بأن يكون منبوذا من  الخلق ومن الله، فلا الخلق براضية عنه ولا الله براض عنه.

(الإمعة) امرؤ لا رأي له، فهو تابع لكل أحد، إن جالس المتدين كان قدّيسا صدّيقا، وإن جالس الملحدين كان ملحدا زنديقا، إن شئت جعلته: منافقا.. أو متلونا.. أو منحرفا.. أو إنسان مصلحة.. أو صاحب شهوة… أو إنسان بلا مبدأ أو غاية… إنه مهزوم ومهزوز… إنه بعض ما سبق أو كل ما سبق.

وإن شئت شخصيةً من التاريخ تدرك فيها (الإمعيّة) واضحة, فخذ البحتري الشاعر المعروف، لم  يأت خليفة إلا مدحه، ولم يذهب هذا الخليفة إلا ذمه، فنال الجميع منه المدح والذم، ومثل البحتري في زماننا ما يسمى بالنخبة من (كتاب ومفكرين، أو إعلاميين، وعلماء سوء)، وهم أسوأ ما ابتليت به أمتنا فلم تترك حاكما إلا وتملقت إليه ما دام على كرسيه جالسا، فإن ذهب عرشه، وتهدم سطانه؛ فهو أسوأ الخلق لديهم.

وتالله ما أروعه ابن مسعود حين قال: لا يكون أحدكم إمعة. قالوا: وما الإمعة يا أبا عبد الرحمن؟ قال: يقول: إنما أنا مع الناس إن اهتدوا اهتديت، وإن ضلوا ضللت، ألا ليوطنن أحدكم نفسه على إن كفر الناس أن لا يكفر.

هذا الكلام أقوله لأن أشخاصا لا تعرف لهم لونا ولا طعما ولا رائحة، هم مع الثورة ما نجحت، ومع المنقلبين ما حكموا.

هم مع الإسلاميين ما غلبوا، ومع الليبراليين ما دفعوا.

هم ثوار ما كان في الثورة نفع وغنم، فإذا كشر الزمان عن أنيابه، عادوا أدراجهم، وبدت سفاهاتهم وحماقاتهم، ولعنوا الثورة وذويها.

فيا أيها السادة؛ وطنوا أنفسكم وقولوا قولة الحق, ودوروا مع الحق حيثما دار، فإن التاريخ يسجل، والله جلّ وعلا يحاسب.

 

شاهد أيضاً

د علي محمد الصلابي يكتب :ليلة النصف من شعبان.. أحكام وفضائل

حرص السلف الصالح أشد الحرص على الأوقات، خصوصا فيها الأعمال التي حباها الله تعالى بمزيد …