د. خالد سعد النجار

لقد حجرت واسعا (2)

 عن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال: قام رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في صلاة وقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمدا، ولا ترحم معنا أحدا. فلما سلم النبي -صلى الله عليه وسلم- قال للأعرابي: (لقد حجرت واسعا) يريد رحمة الله.

 

قال سيد قطب يرحمة الله: إنها الرحمة الواسعة التي تسع كل معصية كائنة ما كانت، وإنها الدعوة للأوبة؛ دعوة العصاة المسرفين الشاردين المبعدين في تيه الضلال, دعوتهم إلى الأمل والرجاء والثقة بعفو الله. إن الله رحيم بعباده، وهو يعلم ضعفهم وعجزهم، ويعلم العوامل المسلطة عليهم من داخل كيانهم ومن خارجه، ويعلم أن الشيطان يقعد لهم كل مرصد، ويأخذ عليهم كل طريق، ويجلب عليهم بخيله ورجله، وأنه جاد كل الجد في عمله الخبيث! ويعلم أن بناء هذا المخلوق الإنساني بناءٌ واهٍ، وأنه مسكين سرعان ما يسقط إذا أفلت من يده الحبل الذي يربطه، والعروة التي تشده، وأن ما ركب في كيانه من وظائف ومن ميول ومن شهوات سرعان ما ينحرف عن التوازن، فيشط به هنا أو هناك، ويوقعه في المعصية وهو ضعيف عن الاحتفاظ بالتوازن السليم.

يعلم الله سبحانه عن هذا المخلوق كل هذا فيمد له في العون، ويوسع له في الرحمة، ولا يأخذه بمعصية حتى يهيئ له جميع الوسائل ليصلح خطأه ويقيم خطاه على الصراط، وبعد أن يلج في المعصية ويسرف في الذنب ويحسب أنه قد طرد وانتهى أمره ولم يعد يُقبل ولا يُستقبل، في هذه اللحظة – لحظة اليأس والقنوط- يسمع نداء الرحمة الندي اللطيف: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ}

وليس بينه ــ وقد أسرف في المعصية وولج في الذنب وأبق عن الحمى وشرد عن الطريق ــ ليس بينه وبين الرحمة الندية الرخية وظلالها السمحة المحيية, ليس بينه وبين هذا كله إلا التوبة؛ التوبة وحدها. الأوبة إلى الباب المفتوح الذي ليس عليه بواب يمنع، والذي لا يحتاج من يلج فيه إلى استئذان: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الزمر:54-55] 

الإنابة والإسلام والعودة إلى أفياء الطاعة وظلال الاستسلام .. هذا هو كل شيء بلا طقوس ولا مراسم ولا حواجز ولا وسطاء ولا شفعاء

إنه حساب مباشر بين العبد والرب، وصلة مباشرة بين المخلوق والخالق، من أراد الأوبة من الشاردين فليؤب، ومن أراد الإنابة من الضالين فلينب، ومن أراد الاستسلام من العصاة فليستسلم وليأت .. ليأت وليدخل، فالباب مفتوح، والفيء والظل والندى والرخاء كله وراء الباب، لا حاجب دونه ولا حسيب (1)

روي عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- أنه افتقد رجلا ذا بأس شديد من أهل الشام، فقيل له: تتابع في هذا الشراب، فقال عمر لكاتبه: اكتب من عمر إلى فلان، سلام عليك وأنا أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو (بسم الله الرحمن الرحيم حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) ثم ختم الكتاب، وقال لرسوله لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا, ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة، فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول قد وعدني الله أن يغفر لي وحذرني عقابه، فلم يبرح يرددها حتى بكى، ثم نزع فأحسن النزوع وحسنت توبته، فلما بلغ أمره، قال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أحدكم قد زل زلة فسددوه وادعوا الله له أن يتوب عليه ولا تكونوا أعوانا للشيطان عليه. (2)

وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: ( إن الله تعالى خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار) (3)

وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون قدر رحمة الله لاتكلتم عليها) (4)

وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الجليل (حجّرت) أي ضيقت, وزنا ومعنى، ورحمة الله واسعة كما قال تعالى: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]، فأنكر صلى الله عليه وسلم  على الأعرابي لكونه بخل برحمة الله على خلقه، وقد أثنى الله تعالى على من فعل خلاف ذلك، حيث قال تعالى: { وَالَّذِينَ جَاؤُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10]

وتتجلى من وراء تلك النصوص طبيعة هذه الأمة المسلمة. تتجلى الآصرة القوية الوثيقة التي تربط أول هذه الأمة بآخرها، وآخرها بأولها، في تضامن وتكافل وتواد وتعاطف وشعور بوشيجة القربى العميقة التي تتخطى الزمان والمكان والجنس والنسب، وتتفرد وحدها في القلوب تحرك المشاعر خلال القرون الطويلة، ويذكر المؤمن أخاه المؤمن بعد القرون المتطاولة كما يذكر أخاه الحي أو أشد، في إعزاز وكرامة وحب, ويحسب السلف حساب الخلف، ويمضي الخلف على آثار السلف صفا واحدا.

إنها صورة باهرة تمثل حقيقة قائمة كما تمثل أرفع وأكرم مثال للبشرية يتصوره قلب كريم، صورة تبدو كرامتها ووضاءتها على أتمها حين تقرن مثلا إلى صورة الحقد الذميم والهدم اللئيم التي تمثلها وتبشر بها الشيوعية في إنجيل كارل ماركس، صورة الحقد الذي ينغل في الصدور وينخر في الضمير على الطبقات وعلى أجيال البشرية السابقة وعلى أممها الحاضرة التي لا تعتنق الحقد الطبقي الذميم وعلى الإيمان والمؤمنين من كل أمة وكل دين.

صورتان لا التقاء بينهما .. صورة ترفع البشرية إلى أعلى مراقيها وصورة تهبط بها إلى أدنى دركاتها.

صورة تمثل الأجيال من وراء الزمان والمكان والجنس والوطن والعشيرة والنسب, متضامنة مترابطة متكافلة متوادة متعارفة صاعدة في طريقها إلى الله, بريئة الصدور من الغل, طاهرة القلوب من الحقد, وصورة تمثل البشرية أعداءً متناحرين يلقى بعضهم بعضا بالحقد والدغل والغش والخداع والالتواء حتى وهم في المعبد يقيمون الصلاة! فالصلاة ليست سوى أحبولة، والدين كله ليس إلا فخا ينصبه رأس المال للكادحين! (5)

الهوامش والمصادر

 (1) في ظلال القرآن ــ دار الشروق ــ ص 3058 

(2) تفسير القرطبي ج: 15 ص: 291 

(3) رواه البخاري ــ كتاب الرقائق برقم 5988 

(4) رواه البزار (صحيح) انظر حديث رقم: 5260 في صحيح الجامع 

(5) في ظلال القرآن ــ سيد قطب ــ دار الشروق ص 3527

 

 

 

شاهد أيضاً

د علي محمد الصلابي يكتب :ليلة النصف من شعبان.. أحكام وفضائل

حرص السلف الصالح أشد الحرص على الأوقات، خصوصا فيها الأعمال التي حباها الله تعالى بمزيد …