معالم المرحلة المقبلة في تركيا

 

لم يكن المؤتمر الصحافي الذي عقده حزب العدالة والتنمية في تركيا (19 مايو 2016) مفاجئاً للمتابعين، فقد جاء اختيار “بن علي يلدرم” كمرشح الحزب الوحيد -رسمياً – للمؤتمر الاستثنائي الذي سيعقد غدا الأحد موافقاً جداً للتوقعات والتسريبات السابقة على الإعلان. ذلك أن الخلافات التي أدت إلى غياب أو تغييب رئيس الوزراء الحالي -السابق حكماً – أحمد داوود أوغلو عن رئاسة الحزب والحكومة كانت قد أوحت بالخطوط العريضة للمعايير المطلوب توفرها في خليفته، وهي الشخصية التنفيذية الدؤوبة، والتناغم مع الرئيس أردوغان وغياب الطموح السياسي والنزعة الاستقلالية قدر الإمكان، ولكن مع كونه قيادياً كبيراً ومعروفاً في الحزب.

وباعتبار هذه المواصفات، فقد ورد اسم “يلدرم” في قائمة الأسماء المرشحة للرئاسة منذ اللحظة الأولى رغم أن الأمر لم يكن مقطوعاً به لعدة اعتبارات. فهو أولاً أحد مؤسسي الحزب، ووزير المواصلات والملاحة البحرية والاتصالات على مدى أكثر من 13 عاماً، وصاحب إنجازات كبيرة في مجال عمله حيث تشهد له البنية التحتية في تركيا وقطاع المواصلات إضافة إلى المشاريع الكبيرة مثل الجسر الثالث والمطار الثالث ومارماراي في إسطنبول. كما أنه أحد أقرب المقربين من الرئيس أردوغان ورفيق درب له منذ أن كان رئيساً لبلدية إسطنبول في تسعينيات القرن الماضي ولم يتخلف يوماً عن أي مهمة وكل بها, بما في ذلك الانتقال من وزير ناجح إلى مرشح فرصته ضعيفة في الفوز برئاسة بلدية أزمير؛ المحسوبة على حزب الشعب الجمهوري المعارض, إلى مستشار لأردوغان ليعود مجدداً إلى وزارته.

وفوق ذلك فقد ورد اسمه – وفق التسريبات المتواترة – في المركز الثاني في استطلاع الرأي الداخلي في حزب العدالة والتنمية لخلافة أردوغان بعد عبد الله جل, وقبل أحمد داود أوغلو، قبل أن يقع الاختيار على الأخير. ولعل هذه الأسباب مجتمعة, إضافة إلى دعم أردوغان له, قد وضعته على رأس قائمة استطلاع الرأي الداخلي الأخيرة في الحزب بنسبة وصلت إلى 80 % وفق بعض وسائل الإعلام التركية.

نظرياً، قد لا يكون يلدرم المرشح الوحيد في مؤتمر الحزب القادم باعتبار أن النظام الأساسي للحزب يسمح بتعدد المرشحين وفق شروط إجرائية مثل الحصول على توقيع 20% من أعضاء الهيئة العمومية, بيد أن هذا الاحتمال ضئيل ويكاد لا يذكر، بسبب تقاليد الحزب بالذهاب للمؤتمر بمرشح واحد وحيد لمنع التجاذبات, ووقوف الرئيس أردوغان خلف المرشح, والنسبة العالية من التصويت له في الاستطلاعات الداخلية للحزب, وعدم رغبة الأطراف المختلفة مع طريقة الإدارة الحالية في التسبب في بلبلة داخلية، اللهم إلا إذا غامر تيار (جل -أرينتش – باباجان) بتغيير استراتيجيته من المعارضة الداخلية الهادئة إلى المواجهة وعرض البديل, وهي مغامرة خطرة وغير مضمونة العواقب بطبيعة الحال، وهو ما يخفض من سقف احتمال وقوعها.

وعليه، وبعد اختيار بن علي يلدرم لرئاسة حزب العدالة والتنمية ورئاسة الحكومة القادمة، ماذا بعد؟

إذا كان ثمة الكثير من الإشارات والدلالات في قرار غياب مهندس السياسة الخارجية عن المشهد القيادي للحزب والحكومة، فإن اختيار يلدرم والتصريحات والإشارات التي وردت في المؤتمر الصحافي له فيها الكثير من الدلالات التي أكدت سابقاتها، وأهمها:

أولاً: ثمة حرص على التأكيد على العلاقة الوثيقة بين حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان كـ “قائد” وليس فقط كـ “رئيس سابق” له، وهو أمر كان له سابقاً محاذيره بينما يبدو الحزب اليوم راغباً في تثبيت تلك العلاقة كأمر واقع وطبيعي وهو ما عكسه تصريح الناطق باسم الحزب؛ عمر تشيليك في المؤتمر الصحافي حين قال “ليس ثمة مسافة ميلليمتر واحد بين كوادر الحزب وبين قائده ومؤسسه السيد رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان” مترافقاً مع تصفيق حاد من جميع الحاضرين.

ثانياً: أن المعيار الرئيس الذي سيتبع في إدارة الحزب الحاكم والحكومة في المرحلة القادمة هو التناغم مع الرئيس أردوغان بحيث لا يحصل أي تعارض أو اضطراب أو بطء في إدارة الدولة في ظل التحديات الكثيرة داخلياً وخارجياً.

ثالثاً: ضمن هذا التناغم بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، ثمة إشارات واضحة إلى تحول رئيس الوزراء إلى مُنفذ للسياسات التي سيرسمها رئيس الجمهورية، وقد يكون من المناسب توقع بقاء رئيس الحكومة القادم في الظل إعلامياً بينما يبرز الرئيس أكثر في اللقاءات والفعاليات وتقييم الأوضاع وتوجيه السياسة.

رابعاً: كان هناك تأكيد واضح على التصميم والحسم في بعض الملفات الملحة على جدول الحكومة المرتقبة سيما مكافحة “الإرهاب” بما يتضمن مواجهة حزب العمال الكردستاني في المقام الأول، لكنه مصطلح يمتد مؤخراً وفق الاستخدام الحكومي التركي إلى الفصائل اليسارية الراديكالية المتورطة في تفجيرات وعمليات انتحارية وتنظيم الدولة – داعش و”الكيان الموازي”.

حكومة تابعة لأردوغان

وعليه، فإن السمة الأبرز والأوضح للحكومة القادمة أنها ستكون تنفيذية إجرائية تتبع الرئيس أردوغان وتهتم بالملفات الأهم على قائمة الأولويات التركية، وهذا يعني ثلاثة أمور مهمة:

1ـ استمرار سياسة الحزم والحسم في مواجهة حزب العمال الكردستاني دون بوادر – ولو أولية – لعملية سياسية إلى جانب الحل الأمني – العسكري.

2ـ حدوث تغييرات متوقعة في اللجنة المركزية للحزب, وفي الحكومة بما يتضمن استبدال المحسوبين على الرئيس السابق داود أوغلو ووضع أسماء أقرب لرؤية الرئيس في الملف الاقتصادي على وجه الخصوص، وهو ما سيعني أسماء جديدة في وزارتي الاقتصاد والمالية تحديداً غير “باباجان” و”شيمشك”.

3ـ بدء مرحلة انتقالية في تركيا بين النظام الحالي (البرلماني دستورياً والهجين فعلياً) إلى نظام شبه رئاسي فعلياً وبحكم المتغيرات والأمر الواقع، وهي فترة ستكون مهمة جداً لتقييم مدى نجاح هذا النظام وفاعليته على أرض الواقع وتقبل الشعب له وردة فعل المعارضة عليه بشكل مباشر.

وفي إطار هذه الاعتبارات يمكن القول إن الانتقال إلى نظام شبه رئاسي وليس رئاسياً بالكامل خطوة يبدو أن الحزب الحاكم قد يضطر إليها مرحلياً في ظل عدم ضمانه لأغلبية برلمانية مريحة تتيح له تمرير الدستور الجديد – بما فيه النظام الرئاسي – عبر البرلمان أو عرضه على استفتاء شعبي. ولكن يبقى النظام الرئاسي هو برنامج العدالة والتنمية ومطلبه ومشروعه الرئيس الذي سيعمل على بلورته على المدى البعيد لقناعته بمحورية دوره في تسهيل عجلة إدارة البلاد بما تقتضيه التحديات الحالية وكذلك الأهداف الكبيرة لتركيا 2023، فضلاً عن ترسيخ الدستور الجديد للإصلاحات الديمقراطية الكثيرة التي أجريت على دستور 1982 بما يحفظ لها ديمومتها وثباتها على المدى البعيد.

شاهد أيضاً

بعد موقفهما تجاه ليبيا.. محاولات لبث الفتنة بين تركيا وتونس

منذ أن بدأ الجنرال الانقلابي خليفة حفتر محاولة احتلال طرابلس في إبريل الماضي، لم تتوقف …