تقدير استراتيجي.. مستقبل العلاقات التركية الإسرائيلية

بعد خمسة أعوام ونصف عام من القطيعة الديبلوماسية بين تركيا ودولة الاحتلال على خلفية الاعتداء على سفينة مافي مرمرة وسقوط عشرة شهداء أتراك، عادت مجددًا الأحاديث عن إمكانية تطبيع العلاقات بين الطرفين، هذه المرة عبر تسريبات إعلامية إسرائيلية واعتراف تركي بحدوث تقدم ما في المفاوضات بينهما.

تطرح هذه الورقة عشرة محددات للعلاقات التركية الإسرائيلية، وتظهر العديد من الظروف والمحفزات التي تدفع باتجاه تطبيع العلاقات الديبلوماسية التركية الإسرائيلية، كما تشير إلى أنه ما تزال هناك العديد من العقبات في وجهها.

ويبدو أن هناك سيناريوهين محتملين للعلاقة بين الطرفين، أولهما وهو المرجح: بلورة اتفاق يعيد العلاقة الديبلوماسية (إذا ما بقيت البيئتان الدولية والإقليمية على حالهما) والوصول إلى حلّ مقبول للطرفين بشأن تخفيف الحصار عن غزة بما يبدو انتصارًا تركيًا ودون أن يظهر في التفسير الإسرائيلي كسرًا للخطوط الحمراء، والسيناريو الثاني: فشل المحادثات الحالية في الوصول إلى اتفاق بانتظار حدوث تغيير في البيئات الإقليمية والدولية لمصلحة أيّ من الطرفين.

ولذلك، فإن المطلوب هو تعزيز الموقف التركي بشأن رفع الحصار عن غزة، وبما يمنع من تفريغ هذا الموقف من محتواه، وتعزيز العلاقات الفلسطينية التركية، بما يقوي الوضع التركي في مواجهة الضغوط الإسرائيلية والأمريكية.

تمهيد

تمتد العلاقات بين تركيا ودولة الاحتلال على مدى عشرات السنين، حيث كانت تركيا من أوائل الدول التي اعترفت بها سنة 1949، كأول دولة مسلمة تفعل ذلك. ثم، وبعد انضمام تركيا لحلف شمال الأطلسي (ناتو)  سنة 1952، تعمقت العلاقة بينهما أكثر خصوصاً في المجالين العسكري والأمني، نتج عنها توقيعهما- مع إثيوبيا- الاتفاق الإطاري أو حزام المحيط The Peripheral Pact Treaty سنة 1958 .

وبعد فترات من المد والجزر في العلاقات الثنائية، كان الانقلاب العسكري في تركيا سنة 1980 نقطة تحول في هذه العلاقات التي تسارعت وتعمقت وتجذرت في مختلف المجالات، وشهدت في بداية التسعينيات فترتها الذهبية، التي وصلت لذروتها بزيارة رئيسة الوزراء التركية تانسو تشيلر لـ”إسرائيل” سنة 1994، ثم زيارة الرئيس سليمان دميريل لها سنة 1996.

وقد وقّع الطرفان سنة 1996 تحديدًا عشرات الاتفاقيات في المجالات العسكرية والأمنية والاقتصادية والسياسية، أهمها تدريب الطيارين الإسرائيليين في تركيا، وتطوير الدبابات والمقاتلات التركية في إسرائيل، وتواجد مقاتلات إسرائيلية على الأراضي التركية، فضلاً عن تعميق مستوى التعاون الاستخباري على مستوى الأجهزة الرسمية وتبادل المعلومات، وتواجد مراكز تنصت وإنذار مبكر على الأراضي التركية، تتجسس عبرها “إسرائيل” على بعض دول الجوار ومنها العراق وسورية.

ولم يؤدِّ وصول حزب العدالة والتنمية (AKP) ذي الجذور الإسلامية- على مستوى قياداته وليس على مستوى برنامجه – للحكم في تركيا سنة 2002 إلى تدهور العلاقات بين البلدين، بل استمر التطور فيها وحصلت زيارات ديبلوماسية متبادلة على أعلى مستوى بين الطرفين، أهمها زيارة كل من وزير الخارجية التركي حينها عبد الله جول ثم رئيس الوزراء وقتئذ رجب طيب أردوغان لـ”إسرائيل” سنة 2005، والتي لاقت ترحيبًا إسرائيليًا كبيرًا.

 وبالتوازي مع العلاقات الاقتصادية المتطورة باضطراد واضح بين الطرفين، حاولت تركيا لعب دور الوسيط بين ”إسرائيل“ ودول عربية وإسلامية مثل سورية والباكستان، قبل أن تتدهور علاقاتها مع دولة الاحتلال على إثر العدوان على غزة سنة 2008، والتي عدَّته تركيا طعنة في ظهرها، وخيانة لجهدها المبذول على جبهة العلاقات السورية– الإسرائيلية، والتي رعت تركيا فيها مفاوضات غير مباشرة بين الجانبين .

 لاحقاً، مرت العلاقات الثنائية بعدة منعطفات وأزمات، مثل حادثة منتدى دافوس الشهيرة في سبتمبر 2009 ، وأزمة إهانة السفير التركي في تل أبيب في يناير 2010 ، حتى وصلت الذروة بالاعتداء الإسرائيلي على سفينة مرمرة والتي انخفضت بعدها العلاقات الديبلوماسية بين الطرفين على إثرها إلى أدنى مستوياتها واستمرت كذلك حتى الآن.

محددات العلاقة مع “إسرائيل

وقبل تحليل الوضع الحالي ومحاولة استشراف المستقبل، ينبغي الوقوف على المحددات التي شكلت وتشكل إطار علاقة تركيا في عهد العدالة والتنمية بدولة الاحتلال، وأهمها:

أولاً: البناء على العلاقة الممتدة بين الطرفين على مدى عشرات الأعوام، وعدم القدرة (وربما غياب النية ) على إحداث تغييرات جذرية ومباشرة فيها.

ثانياً: مراعاة الأوضاع السياسية في البلاد حين تسلم الحزب الحكم، وخصوصاً وصاية المؤسسة العسكرية التركية على المشهد السياسي، وهي صاحبة العلاقات المتميزة مع “إسرائيل”.

ثالثاً: وضع العلاقة تحت بند الخطوط العامة للأمن القومي التركي ومصالح تركيا التي أعاد الحزب الحاكم تفسيرها وصياغتها ولم ينقلب عليها بشكل دراماتيكي.

رابعاً: نظرية الحزب في ضرورة تطويع السياسة للاقتصاد في السياسة الخارجية، أي “الارتباط المعزز” بينهما، في ظروف العلاقات الطبيعية مع الدول، والفصل (فك الارتباط) بينهما في فترات التوتر، أي الحفاظ على العلاقات التجارية والاقتصادية على الرغم من الخلافات السياسية، وهو ما فعلته تركيا بعد أزمة سفينة مرمرة .

خامساً: تجنب تركيا للمواجهات المباشرة والحادة مع أيّ طرف، وصعوبة تحركها منفردة دون شركاء إقليميين، بغض النظر عن مدى ارتفاع سقف الخطاب.

سادساً: اعتبار العلاقة مع دولة الاحتلال جزءاً من منظومة علاقات تركيا الغربية -الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي- ومفتاحاً لنيل ثقة هذه الأطراف من خلال العلاقة الجيدة، أو على الأقل غير المتأزمة، معها.

سابعاً: حاجة تركيا لـ”إسرائيل” في عدة مجالات، وتحديداً التعاون الأمني وتطوير الأسلحة والصناعات الدفاعية، خصوصاً في أعوام حكم العدالة والتنمية الأولى.

ثامناً: مراعاة التدرج في العلاقة، بحيث تنعكس قوة وضع الحزب الداخلي على العلاقة مع دولة الاحتلال، تخففاً من بعض الالتزامات والروابط، بشكل هادئ وبطيء لا يؤدي إلى أزمات حادة معها ولا يستثير الغرب ضدّ أنقرة.

تاسعاً: عدم تجاوز السقف العربي – الدولي في التعامل مع القضية الفلسطينية، والالتزام بالحل السياسي لها وفق رؤية حلّ الدولتين، والمبادرة العربية للسلام , بل والدعوة لإشراك حركة حماس في عملية التسوية .

عاشراً: عدم تخطي حدود الدعم السياسي – الإعلامي – المالي للفصائل الفلسطينية، مع مراعاة أن يكون الدعم المالي تحديداً على شكل معونات إغاثية وإنسانية ومشاريع دعم للبنية التحتية، لعدم الإضرار بالعلاقة مع دولة الاحتلال قبل الأزمة معها.

وبناء على هذه المحددات وفي ضوئها نسج حزب العدالة والتنمية علاقات تركيا مع “إسرائيل” على مدى أعوام، حتى تأزمت العلاقة معها على عدة مراحل كما ورد آنفاً. وعلى الرغم من أن الحكومة التركية لم تكن داعمة لفكرة أسطول الحرية ورحلته لكسر الحصار عن قطاع غزة سنة 2010، إلا أن الاعتداء عليه وقتل عشرة مواطنين أتراك (تسعة مباشرة، وواحد بعد أشهر من العلاج تأثراً بجراحه) وضعها في موقف الذود عن سيادة البلاد ومواطنيها.

ولذلك فقد اتخذت تركيا عدداً من الإجراءات العقابية تجاه “إسرائيل”، مثل سحب السفير التركي وطرد السفير الإسرائيلي، وإلغاء مناورات عسكرية ثنائية مبرمجة مسبقاً، وإلغاء صفقات سلاح ومنها شراء طائرات بدون طيار منها، فضلاً عن تجميد عشرات الاتفاقيات في مختلف المجالات معها.

لاحقاً، أعلنت تركيا شروطها الثلاثة لعودة العلاقات إلى سابق عهدها، والتي تمثلت في الاعتذار عن الاعتداء، ودفع تعويضات مادية لعائلات الشهداء العشرة، وكسر الحصار عن قطاع غزة.

المحفزات والعقبات

بدأت اللقاءات الثنائية بهدف تطويق الأزمة بين الطرفين مبكراً جداً، حيث التقى وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو سراً بوزير الصناعة والتجارة الإسرائيلي بنيامين بن إليعازر في بروكسل في 1/7/2010، دون أن يفضي ذلك اللقاء إلى نتيجة إيجابية .

تتالت اللقاءات بين مسؤولي البلدين وتكرر الفشل في التوصل لاتفاق ما، بسبب إصرار تركيا على شروطها الثلاثة ورفض “إسرائيل” لها، حتى حملت سنة 2013 جديداً باعتذار بنيامين نتنياهو من أردوغان، بضغط من الرئيس الأمريكي باراك أوباما في مارس، فيما بقي الشرطان الآخران دون تنفيذ حتى اليوم .

بعد هذا الاعتذار تسارعت اللقاءات بين الطرفين، فاجتمعا في أنقرة في أبريل ثم في القدس في مايو من سنة 2013، ثم توصلا إلى مسودة اتفاق لم يكتب له الخروج إلى حيّز التنفيذ .

وافقت “إسرائيل” سنة 2014 على تعويض أسر الضحايا بمبلغ 20 مليون دولار، دون أن تنفذ ذلك، والتقى الطرفان مرة أخرى في يونيو 2015، قبل أن تسرّب وسائل الإعلام العبرية أخباراً عن “اتفاق قد تمّ فعلاً” بين الطرفين. بينما بدا الموقف التركي في المقابل مرتبكاً بعض الشيء، فتذبذبت تصريحات المسؤولين الأتراك بين الإقرار بوجود محادثات ونفي توقيع اتفاق نهائي، بين الحديث عن ثبات الموقف التركي من سياسات “إسرائيل” واعتبار “الشعب الإسرائيلي صديقاً للشعب التركي”، بين الرغبة في التقارب باعتباره مصلحة “للبلدين والمنطقة”  والتباهي بأن تركيا هي أول دولة “ترغم إسرائيل على الاعتذار”، بين التأكيد على شروط أنقرة الثلاثة في بعض التصريحات وذكر صيغة “تخفيف الحصار” بدل “رفع الحصار” في بعضها الآخر .

ما يميز هذه الجولة من المفاوضات مجموعة من العوامل المحفزة، منها ما هو متعلق بالظرف الإقليمي – الدولي الدافع للطرفين نحو التقارب، ومنها ما هو خاص بكل منهما على حدة، ومنها ما هو مرتبط بما سبق من مباحثات، أهمها:

  • عدم ممانعة تركيا عودة العلاقات من الناحية المبدئية وربطها الأمر بشروط إجرائية.
  • تضرر الطرفين من فترة انقطاع العلاقات الديبلوماسية، فتركيا، وفق الحسابات البراجماتية الإقليمية، فقدت القدرة على لعب دور مؤثر في القضية الفلسطينية بعد تردي علاقاتها مع كل من تل أبيب والقاهرة، بينما حال الفيتو التركي دون مشاركة “إسرائيل” في بعض أنشطة ومناورات حلف الناتو، فضلاً عن أن “إسرائيل” فقدت صداقة دولة إقليمية كبيرة، في فترة تمر فيها المنطقة بتحولات سياسية – اجتماعية ضخمة تمتاز بسيولة كبيرة ونتائج غير متوقعة.
  • الانتهاء منذ فترة طويلة من الشرطين الأولين، ووقوف المحادثات عند الشرط المتعلق بحصار غزة.
  • رغبة الطرفين في ترميم العلاقة بينهما لطي صفحة الخلاف والتوتر.
  • الضغوط الأمريكية على حليفيها الاستراتيجيَيْن في المنطقة للتقارب في ظلّ المتغيرات الإقليمية الكثيرة.
  • قناعة الطرف الإسرائيلي بعدم جدوى تأخير الملف أكثر من ذلك، بعد أن كان يراهن على تراجع آخر لحزب العدالة والتنمية في انتخابات نوفمبر الفائت، يضعف موقف تركيا في المباحثات. بينما أعادت الانتخابات الحزب إلى أغلبيته البرلمانية وساعدته على تشكيل حكومة قوية بمفرده، فاضطر نتنياهو لتفعيل الملف المجمد على طاولته منذ 2014.
  • تطورات الأزمة السورية وما نتج عنها من مهددات مشتركة للطرفين، في مقدمتها تنظيم الدولة (داعش)
  • التواجد الروسي العسكري المباشر في سورية منذ نهاية سبتمبر الماضي، وهو عامل مهدد لكلا الطرفين، بغض النظر عن درجة التنسيق بين روسيا و”إسرائيل”.
  • النفوذ الإيراني المتزايد في المنطقة، وخصوصاً في سورية، والذي ينظر له الطرفان بنوع من الريبة، تحديداً بعد الاتفاق النووي بين إيران ودول 5+1 الذي يتوقع أن يزيد من هذا النفوذ.
  • الحاجة المتبادلة في ملف الغاز الطبيعي، بعد العقوبات الروسية الاقتصادية على تركيا واكتشاف حقول على الشواطئ الفلسطينية واللبنانية تتجه “إسرائيل” للسيطرة عليها واستثمارها، بحيث تقلل تركيا من نسبة اعتمادها على الغاز الروسي (55% من حاجة تركيا من الغاز الطبيعي يأتي حالياً من روسيا)، وتجد “إسرائيل” سوقاً جديدة وممراً لعبور غازها إلى الدول الأوروبية .
  • العزلة السياسية النسبية التي تعانيها تركيا في المنطقة، والنداءات المتكررة من مسؤولين في الحكومة والحزب الحاكم بضرورة مراجعة السياسة الخارجية وتصويب مسارها، في محاولة لتقليل الخصوم وتدوير الزوايا مع عدد من دول المنطقة .
  • تأييد جزء مهم من المعارضة التركية (حزبي الشعب الجمهوري والشعوب الديمقراطي تحديداً) لتعديل سياسة تركيا الخارجية، وخصوصاً في جزئية إعادة العلاقة مع “إسرائيل”.
  • رغبة تركيا في كسب دعم يهود روسيا لكبح جماح بوتين في حزمة عقوباته ضدّ تركيا، فضلاً عن زيادة التوتر معها.
  • انشغال أنقرة بالتصعيد العسكري مع حزب العمال الكردستاني منذ يوليو 2015، ورغبتها في التركيز على حسمه أولاً، وتحييد العامل الخارجي في إذكائه ثانياً.
  • التخوف التركي من تسارع خطوات المشروع السياسي لأكراد سورية على حدودها الجنوبية، وهو ما تراه أنقرة خطاً أحمر وفق معايير أمنها القومي، مضافاً للعلاقات التي تربطها بدولة الاحتلال سياسة وتسليحاً. حيث تأمل تركيا أن تحدّ من طموح حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي السوري) في إقامة ممر كردي شمال سورية يمتد من حدود العراق إلى البحر المتوسط، من خلال التقارب مع تل أبيب وإرضائها.
  • رغبة تركيا في تسجيل إنجاز سياسي لها من خلال إسهامها بتخفيف الحصار عن قطاع غزة، ووصول مباحثات “تثبيت وقف إطلاق النار” غير المباشرة بين “إسرائيل” وحماس إلى طريق مسدود، الأمر الذي قد يعزز الدور التركي في الشأن الفلسطيني.
  • تطور العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الطرفين منذ 2010 (بل منذ تسلم العدالة والتنمية الحكم سنة 2002) بالرغم من الأزمة الديبلوماسية بينهما، ورغبتهما في زيادة حجم التبادل التجاري بينهما، ومركزية المصالحة السياسية في هذا السياق حيث زاد حجم التبادل التجاري بين أنقرة وتل أبيب منذ سنة 2010 التي وقع فيها حادث مافي مرمرة وحتى سنة 2014 بنسبة 69.5 % (من 3,440  مليون دولار إلى 5,832 مليون دولار).

شاهد أيضاً

بعد موقفهما تجاه ليبيا.. محاولات لبث الفتنة بين تركيا وتونس

منذ أن بدأ الجنرال الانقلابي خليفة حفتر محاولة احتلال طرابلس في إبريل الماضي، لم تتوقف …