الشيخ جعفر الطلحاوي
الشيخ جعفر الطلحاوي

رجل مثل الذهب

هؤلاء الرجال من أوصافهم أن رضا الله غايتهم من دون الخلق أجمعين، فإرضاء الناس غاية لا تدرك:

وهذه أَبياتٌ لَطيفَةٌ تُبَيِّنُ بَعضَ مَظاهِرِ هَـذه الحكمَةِ، يَقولُ فِيهَا الشَّاعِرُ:

ضَحِكْتُ فَقَالُوا: أَلَا تَحْتَشِمْ

بَكَيْـتُ فَقَالُوا: أَلَا تَبْتَسِمْ

تَبَسَّمْتُ قَالُوا: يُرَائِي بِهَا

عَبَسْت فَقَالُوا: بَدَا مَا كَتَمْ

صَمَتُّ فَقَالُوا: كَلِيلُ اللِّسَانِ

نَطَقْت فَقَالُوا: كَثِيرُ الكَلِمْ

حَلمْتُ فَقَالُوا: صَنِيعُ الجَبَانِ

وَلَوْ كَانَ مُقْتَدِرًا لَانْتَقَمْ

بَسَلْتُ فَقَالُوا: لِطَيْشٍ بِهِ

وَمَا كَانَ مُجْتَرِئًا لَوْ حَكَمْ

يَقُولُون: شَذَّ إِذَا قُلْتُ: لَا

وَإِمَّعَةٌ حِينَ وَافَقْتُهُمْ

فَأَيْقَنْتُ أَنِّيَ مَهْمَا أُرِدْ

رِضَا النَّاسِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ أُذَمْ

جحا وابنه والحمار

يروى أنه كان يسير رجل – قيل إنه جحا – وابنه ومعهما حمار:

ركب الأب وترك الابن ومشيا، فمرا على قوم، فقالوا: يا له من أب ليس فيه شفقة ولا رحمة، يركب ويترك هذا الابن المسكين يمشى وراءه! فما كان منه إلا أن نزل وأركب ابنه، ومشى، فمرا على قوم آخرين، فقالوا: يا له من ابن عاق يترك أباه يمشي وراء الدابة وهو يركب! فركب الاثنان الدابة، ومرا على قوم آخرين، فقالوا: يا لهما من فاجريْن حمَّلا الدابة فوق طاقتها! فنزل الاثنان ومشيَا وراء الدابة، فمرا على قوم، فقالوا: أحمقان مغفلان يُسخر الله لهما هذه الدابة، ثم يتركانها تمشي ويمشيان وراءها! {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ} [المؤمنون:71].

من راقب الناس مات هماً, ومن راعى نظر الناس لا يسلم منهم، على أي حالة تكون، فرضا الناس غاية لاتدرك ، وأحمق الناس من طلب ما لا يدرك.

لا تطلب رِضَا الْمَخْلُوقِينَ

 لَا يَسُوغُ فِي الْعَقْلِ وَلَا الدِّينِ طَلَبُ رِضَا الْمَخْلُوقِينَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ. كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رِضَا النَّاسِ غَايَةٌ لَا تُدْرَكُ. فَعَلَيْك بِالْأَمْرِ الَّذِي يُصْلِحُك فَالْزَمْهُ وَدَعْ مَا سِوَاهُ وَلَا تُعَانِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّا مَأْمُورُونَ بِأَنْ نَتَحَرَّى رِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ}.

وَعَلَيْنَا أَنْ نَخَافَ اللَّهَ فَلَا نَخَافُ أَحَدًا إلَّا اللَّهَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . وَقَالَ: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} وَقَالَ: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} . فَعَلَيْنَا أَنْ نَخَافَ اللَّهَ وَنَتَّقِيَهُ فِي النَّاسِ، فَلَا نَظْلِمَهُمْ بِقُلُوبِنَا وَلَا جَوَارِحِنَا وَنُؤَدِّيَ إلَيْهِمْ حُقُوقَهُمْ بِقُلُوبِنَا وَجَوَارِحِنَا، وَلَا نَخَافَهُمْ فِي اللَّهِ فَنَتْرُكَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ خِيفَةً مِنْهُمْ.

 عاقبة من يتحرى رضا الله

وَمَنْ لَزِمَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ كَانَتْ الْعَاقِبَةُ لَهُ، كَمَا كَتَبَتْ عَائِشَةُ إلَى مُعَاوِيَةَ: ” أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ مَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَسْخَطَ عَلَيْهِ النَّاسَ وَعَادَ حَامِدُهُ مِنْ النَّاسِ ذَامًّا، وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَى عَنْهُ النَّاسَ”. فَالْمُؤْمِنُ لَا تَكُونُ فِكْرَتُهُ وَقَصْدُهُ إلَّا رِضَا رَبِّهِ وَاجْتِنَابَ سَخَطِهِ وَالْعَاقِبَةُ لَهُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ.

في صحيح الجامع: 6097 , الصَّحِيحَة: 2311 : عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها – قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللهِ بِسَخَطِ النَّاسِ، كَفَاهُ اللهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللهِ، وَكَلَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ)(1)، وفي رواية: “سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِ, وَأَسْخَطَ عَلَيْهِ النَّاسَ”(2). (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين) (2/ 286).

وَقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللَّهِ – الَّتِي لَا تَبْدِيلَ لَهَا – أَنَّ مَنْ آثَرَ مَرْضَاةَ الْخَلْقِ عَلَى مَرْضَاتِهِ: أَنْ يُسْخِطَ عَلَيْهِ مَنْ آثَرَ رِضَاهُ، وَيَخْذُلَهُ مِنْ جِهَتِهِ. وَيَجْعَلَ مِحْنَتَهُ عَلَى يَدَيْهِ. فَيَعُودَ حَامِدُهُ ذَامًّا. وَمَنْ آثَرَ مَرْضَاتَهُ سَاخِطًا. فَلَا عَلَى مَقْصُودِهِ مِنْهُمْ حَصَلَ، وَلَا إِلَى ثَوَابِ مَرْضَاةِ رَبِّهِ وَصَلَ. وَهَذَا أَعْجَزُ الْخَلْقِ وَأَحْمَقُهُمْ.

رِضَا الْخَلْقِ .. لَا مَقْدُورٌ وَلَا مَأْمُورٌ

مَعَ أَنَّ رِضَا الْخَلْقِ لَا مَقْدُورٌ، وَلَا مَأْمُورٌ، وَلَا مَأْثُورٌ. فَهُوَ مُسْتَحِيلٌ. بَلْ لَا بُدَّ مِنْ سُخْطِهِمْ عَلَيْكَ. فَلَأَنْ يَسْخَطُوا عَلَيْكَ وَتَفُوزَ بِرِضَا اللَّهِ عَنْكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ وَأَنْفَعُ لَكَ مِنْ أَنْ يَسْخَطوْا عَلَيْكَ وَاللَّهُ عَنْكَ غَيْرُ رَاضٍ. فَإِذَا كَانَ سُخْطُهُمْ لَا بُدَّ مِنْهُ – عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ – فَآثِرْ سُخْطَهُمُ الَّذِي يُنَالُ بِهِ رِضَا اللَّهِ. فَإِنْ هُمْ رَضُوا عَنْكَ بَعْدَ هَذَا، وَإِلَّا فَأَهْوَنُ شَيْءٍ رِضَا مَنْ لَا يَنْفَعُكَ رِضَاهُ، وَلَا يَضُرُّكَ سُخْطُهُ فِي دِينِكَ، وَلَا فِي إِيمَانِكَ، وَلَا فِي آخِرَتِكَ. فَإِنْ ضَرَّكَ فِي أَمْرٍ يَسِيرٍ فِي الدُّنْيَا فَمَضَرَّةُ سُخْطِ اللَّهِ أَعْظَمُ وَأَعْظَمُ. وَخَاصَّةً الْعَقْلُ: احْتِمَالُ أَدْنَى الْمَفْسَدَتَيْنِ لِدَفْعِ أَعْلَاهُمَا، وَتَفْوِيتُ أَدْنَى الْمَصْلَحَتَيْنِ لِتَحْصِيلِ أَعْلَاهُمَا. فَوَازِنْ بِعَقْلِكَ، ثُمَّ انْظُرْ أَيَّ الْأَمْرَيْنِ خَيْرٌ فَآثِرْهُ، وَأَيَّهُمَا شَرٌّ فَابْعُدْ عَنْهُ. فَهَذَا بُرْهَانٌ قَطْعِيٌّ ضَرُورِيٌّ فِي إِيثَارِ رِضَا اللَّهِ عَلَى رِضَا الْخَلْقِ.

هَذَا مَعَ أَنَّهُ إِذَا آثَرَ رِضَا اللَّهِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ غَضَبِ الْخَلْقِ، وَإِذَا آثَرَ رِضَاهُمْ لَمْ يَكْفُوهُ مُؤْنَةَ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِ.

حداء رابعة: ومما روي عن رابعة العدوية أنها قالت، تخاطب الله سبحانه:

فَلَيْتَكَ تَحْلُو، وَالْحَيَاةُ مَرِيرَةٌ … وَلَيْتَكَ تَرْضَى. وَالْأَنَامُ غِضَابُ

وَلَيْتَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَامِرٌ …  وَبَيْنِي وَبَيْنَ الْعَالَمِينَ خَرَابُ

إِذَا صَحَّ مِنْكَ الْوُدُّ فَالْكُلُّ هَيِّنٌ  … وَكُلُّ الَّذِي فَوْقَ التُّرَابِ تُرَابُ

مِنَ الْمَعْلُومِ: أَنَّ الْمُؤْثِرَ لِرِضَا اللَّهِ مُتَصَدٍّ لِمُعَادَاةِ الْخَلْقِ وَأَذَاهُمْ، وَسَعْيِهِمْ فِي إِتْلَافِهِ وَلَا بُدَّ. هَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ. وَإِلَّا فَمَا ذَنْبُ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، وَالَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ، وَالْقَائِمِينَ بِدِينِ اللَّهِ، الذَّابِّينَ عَنْ كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ عِنْدَهُمْ؟

من أعداؤهم؟

مَنْ آثَرَ رِضَا اللَّهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُعَادِيَهُ رَذَالَةُ الْعَالَمِ وَسَقْطُهُمْ، وَغَرْثَاهُمْ وَجُهَّالُهُمْ، وَأَهْلُ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ مِنْهُمْ، وَأَهْلُ الرِّيَاسَاتِ الْبَاطِلَةِ، وَكُلُّ مَنْ يُخَالِفُ هَدْيُهُ هَدْيَهُ.

وَمِنْ إِسْلَامِهِ صُلْبٌ كَامِلٌ لَا تُزَعْزِعُهُ الرِّجَالُ وَلَا تُقَلْقِلُهُ الْجِبَالُ، وَمِنْ عَقْدَ عَزِيمَةِ صَبْرِهِ مُحْكَمٌ لَا تَحُلُّهُ الْمِحَنُ وَالشَّدَائِدُ وَالْمَخَاوِفُ: “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا” (الفرقان : 33).

 

الهوامش:

(1)  (ت) 2414 , (حب) 277 , صحيح الجامع: 6097 , الصَّحِيحَة: 2311

(2) (حب) 276 , انظر صحيح الترغيب والترهيب: 2250

شاهد أيضاً

د علي محمد الصلابي يكتب :ليلة النصف من شعبان.. أحكام وفضائل

حرص السلف الصالح أشد الحرص على الأوقات، خصوصا فيها الأعمال التي حباها الله تعالى بمزيد …