كشك .. وما أدراك ما كشك (2)

محنة الشيخ

لما كان الشيخ ـ رحمه الله ـ من مواليد 1933, فقد عايش ثورة 1952م، وكان يأمل فيها خيرًا كما كان يأمل غيره، لكن العسكر خيبوا نظرة الناس فيهم، وجاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، ولما كان الشيخ لا يرى منكرًا ببصيرته فيسكت عليه، كان لزامـًا عليه أن يدفع الضريبة لإقامة هذه الفريضة، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذاق الشيخ ما ذاقه أبناء الحركة الإسلامية في أرض الكنانة، وفي عام 1965م رُجت الأرض رجـًا وهبت رياح اشتدت كأنها رماد في يوم عاصف، تحاول اقتلاع “شجرة الدعوة الإسلامية ” وبالتحديد في شهر أغسطس فوجئ الشيخ بطرقات عنيفة على بابه، وكانت جريمة لا تغتفر أن يضبط أي كتاب لشهيد الإسلام سيد قطب, خاصة كتاب ” معالم في الطريق” ، وكان قدر الله أن هذا الكتاب هو الذي بين يدي الشيخ يُقرأ له فيه، لكن لم ينتبه العسكر لهذا! وقد أمروا الشيخ بارتداء ملابسه، وانطلقوا به إلى حيث لا يدري، وبعد مدة استغرقت أكثر من نصف ساعة، سئل فيها الشيخ عن موضوعات شتى، منها: الجبر والاختيار والتخيير والتسيير، نظام الحكم، عرضت عليه بعض الأسماء، ثم أمر بالإفراج عنه!
وفي سنة 1966م كانت المحنة العظمى، فقد جاءت الدنيا لتركع بين يديه شريطة أن يبيع دينه، ويُحل ما حرم الله، ولكن الشيخ أدركه الله بفضله، فقدّم دنياه محافظـًا على دينه، ورضي بالباقية وباع الفانية، وكانت المحنة حين أتى إلى الشيخ مندوبان من إحدى السلطات، وقالا له: إن المشير عبد الحكيم عامر يعلم أن لك شعبية ومحبة في قلوب الناس، وإنه يطلب منك أن تحل دم ” سيد قطب ” ومن معه، ونريد أن نسمع هذه الفتوى في الخطبة القادمة، ثم سألاه: بأي شيء نرد على سيادة المشير؟ فقال الشيخ: ربنا يهيئ ما فيه الخير. وهيئ الله الخير، ولم يتحدث الشيخ بما أرادوا .
وفي شهر إبريل سنة 1966م تم اقتحام منزل الشيخ، واقتيد إلى السجن لمدة قيل إنها ستستمر خمس دقائق، فاستمرت أيامـًا وشهورًا، تنقل فيها بغير إرادته بين السجن الحربي وسجن طرة ، وسجن أبي زعبل، واستمر في السجن حتى 30 مارس 1968م ليجد ابنه الصغير قد ولد وأبوه بعيد، وقد صار عمره قريبًا من عام ونصف العام .

وفي عهد السادات, وبعد ما سمي بـ ” أحداث الزاوية الحمراء ” تم القبض على الشيخ ـ رحمه الله ـ في سبتمبر 1981م ، وترحيله إلى أحد سجون”طره” ، وبعد مقتل ” السادات ” في 6 أكتوبر 1981م تم ترحيل الشيخ إلى سجن ” أبي زعبل “، ثم أفرج عنه في 27 يناير 1982م لكن لم يصرح له بعدها بالعودة إلى مسجده ومنبره، وظل كذلك إلى أن توفاه الله تعالى.

 

عفـة الشيخ

عُرضت على الشيخ كشك الدنيا بزخارفها فأبى ورفض، ولو أراد أن يجمع المال من حله لكان ذا مال وفير، لقد اغتنى الكثيرون من وراء أشرطته، وطلب البعض منه أن يكون له نصيب من بيع أشرطته، فرفض وقال : “إنما آخذ من الوزارة راتبًا على عملي وليس لي في هذه الأشرطة حق أو نصيب”.

كان دائمـًا يتمثل بقول القائل: نزح بحرين بغربالين، وحفر بئرين بإبرتين، وغسل عبدين أسودين حتى يصيرا كأبيضين، وكنس أرض الحجاز في يوم شديد الهواء بريشتين، خير لي من أن أقف على باب اللئيم يضيع فيه ماء عيني.

يوم الإفراج الأول عنه في 30 مارس 1968م قابل الشيخ وزير الداخلية المصري كإتمام للإفراج, فوضع الوزير في يده عشرين جنيهـًا قائلاً: خذ هذه النقود البسيطة واستعن بها في نفقة أولادك، فسأله الشيخ: وبأي وجه أستحقها؟! ورفض أخذها .

وقد عُرض عليه من وزارة الأوقاف المصرية السفر إلى ليبيا فرفض, فقيل له: لم ترفض، وإن راتبك سيتضاعف أكثر من عشر مرات؟‍‍‍ فأصر الشيخ على رفضه. يقول عنه عبد السلام البسيوني: ” ضاقت به الظروف جدًا في بعض الفترات حتى إنه ـ كما سمعت من صديقه الدكتور رشدي إبراهيم رحمه الله ـ لم يكن في بيته إلا التمر والماء .. يعيش عليهما نهارَه وليله ـ وهو المريض بالسكر, مع أن كثيرين عرضوا عليه المساعدة، ومع أن سبلاً كثيرة كانت مفتّحة أمامه للكسب: العمل في الخارج، والتسجيلات الإذاعية والتليفزيونية، ومع ذلك كان يأبى بشدة.. وقد جربت ذلك بنفسي .. ففي نهاية عام 1989م كنت في القاهرة، وحاولت الاستفادة من وجودي هنالك بمقابلة بعض العلماء الكبار والتسجيل معهم للتلفزيون حول بعض القضايا التي طرحت بعد ذلك في برنامج ” الإسلام وقضايا العصر ” الذي ضم كبار علماء العالم الإسلامي، وفاز بالجائزة الذهبية في المهرجان الأول للتلفزيون الخليجي .. وطلبت الشيخ هاتفيـًا أرجوه المشاركة في البرنامج بجانب الشيوخ الأجلاء: الشعراوي، والغزالي، وصلاح أبو إسماعيل ـ رحمهم الله جميعـًا ـ فرد عليَّ بأدب شديد ـ وبحزم شديد أيضًا ـ بأنه لا يتعامل مع أي تلفزيون على الإطلاق, وحاولت ترغيبه وتعطيف قلبه بشتى الطرق، لكنه صمم على الرفض، وعلمي أنه ظل يتهرب من الكاميرات حتى مات، في وقت يلهث الكثيرون للجلوس خمس دقائق أمام الأضواء لاستعراض كرافتة جديدة، أو ساعة يد مهداة ” .

 

أسباب نجاحه وشهرته

قل أن تجد داعية مشهورًا، ذاع صيته بين الناس، أو علت كلمته بين الخلق، إلا وقد استفاد من الشيخ كشك بقصد أو بغير قصد، والحق لئن كان الناس عيالاً في الفقه على أبي حنيفة كما قال الشافعي، فإن الخطباء عيال في الخطابة على كشك، لقد تعلق العرب بخطبه وشرائطه، كما تعلق بذلك العجم، وكم من أناس هدى الله قلوبهم وفتح بصيرتهم، وكان, رحمه الله صاحب فضل بعد الله في ذلك، ويرجع ذلك إلى أمور منها:

1 – الإخلاص العميق الذي كان يظهر في كلامه حديثًا وكتابة؛ نحسبه كذلك والله حسيبه.

2 – الثبات الذي لا يتزعزع، والصبر الذي لا يلين، والشجاعة التي لا نظير لها.

3 – كلماته الساحرة وعباراته الطريفة والتي كانت تحمل خفة ظله، وحلاوة فكاهته ولطف دعابته ولواذع سخريته، وإنك لتسمع خطبته مرات ومرات فتضحك، كأنك تسمعها لأول مرة، فتتفتح أساريرك وتبتسم شفتاك، وتضحك من داخلك .

4 – عدم تقليده لأحد من الناس، بل كان ظاهرة قد لا تتكرر.

5 – استغلال المواهب التي حباه الله بها من حدة الذكاء، وسرعة الحفظ، وطلاقة اللسان، وحب الآخرين، وطلاقة الوجه .

6 – بُعده عن زخارف الدنيا وشهواتها.

7 – اعتقاده أن عمله كخطيب إنما هو رسالة وليس وظيفة.

8 – اجتهاده في طلب العلم وجده في ذلك.

9 – حبه للحركة الإسلامية بكل طوائفها، ومحاولة التقريب بين الصف.

10 – استشهاده بروائع الشعر وظريفه، وجميل القصص وأطرفه، وبديع الأمثال وأصدقها.

 

ما أُخذ على الشيخ

لما كانت العصمة ليست لأحد بعد الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإن الشيخ كشك لم يكن معصومـًا من الخطأ، وإنما كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم ، ومما أُخذ على الشيخ:

1 – إيراده للأحاديث الضعيفة، وقد يقع في الموضوعة أحيانًا.

2 – تشهيره بالأشخاص بأعيانهم وأسمائهم على المنبر، وقد كان يغنيه التلميح عن التصريح، كما أن الإشارة تغني عن العبارة.

 

وفاته

في الخامس والعشرين من رجب 1417هـ الموافق 6 ديسمبر 1996م انتقل الشيخ كشك ـ رحمه الله ـ إلى جوار ربه بعد أن وافته المنية ساجدًا لله رب العالمين فهنيئـًا له ميتته، كتبه الله عنده في سجل الصالحين، وجمعنا الله به مع النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته في الفردوس الأعلى يوم القيامة.

المراجـع :

1 – قصة أيامي؛ مذاكرات الشيخ كشك : عبد الحميد كشك, ط : المختار الإسلامي .

2 – دعاة ومشاهير عرفتهم : الشيخ عبد السلام البسيوني, تحت الطبع.

3 – مجلة لواء الإسلام بمصر : 15 يناير 1997م .

4 – مجلة المجتمع: العدد 1230 ـ 1231 .

5 – مجلة لواء الإسلام بمصر : 26 ديسمبر 1996 .

 

شاهد أيضاً

د علي محمد الصلابي يكتب :ليلة النصف من شعبان.. أحكام وفضائل

حرص السلف الصالح أشد الحرص على الأوقات، خصوصا فيها الأعمال التي حباها الله تعالى بمزيد …