محمد زاهد جول يكتب: العلمانية التركية المعاصرة .. وضوابط منع الخمر نموذجا

ناقش عدد من اللقاءات الفكرية والمؤتمرات مفهوم العلمانية التركية المعاصرة التي انتهجها حزب العدالة والتنمية، والتي خالف فيها سلوكيات العلمانية الأتاتوركية. العلمانية الأتاتوركية أخذت بالتفسير الفرنسي للعلمانية في جانبيه النظري والتطبيقي، على أنها معاداة للدين وكل مظاهر الحياة الدينية؛ اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وحضاريًا، فمن وظيفة الدولة في التفسير والتطبيق الفرنسي أن تمنع كل مظاهر التدين فلا يكون له أثر في الحياة العامة، حتى في جوانبها الاجتماعية وليس في الجانب السياسي كما هو التفسير الإنجليزي والأمريكي مثلاً، لذلك تعارض فرنسا الحجاب وهو مظهر شخصي وجزء من الحرية الفردية، فكانت قضية الحجاب من القضايا المصيرية في فرنسا في السنوات الماضية، بالرغم من كونها قضية شخصية لا علاقة لها بهوية الدولة السياسية ولا في وظيفتها، ولكن التفسير الفرنسي للعلمانية متطرف وعدواني مقارنة بغيره.

لقد كان التفسير والتطبيق الأتاتوركي للعلمانية في تركيا مرهقا للشعب التركي، وكان مخفقًا في كسب ثقة المجتمع التركي، وكان معاديا للهوية الحضارية للشعب لعقود طويلة، ولذلك ما كان له أن يستمر إلا بقوة الحديد والنار التي تملكها مؤسسة الحكم المتمثلة بالحكم العسكري المباشر أو غير المباشر، والمتمثلة بالأيديولوجيا التي تتبناها الدولة في المجالات التربوية والتعليمية والإعلامية والإدارية والأمنية والقضائية وغيرها. فكل من يتمسك بالمظاهر الاجتماعية للتدين يتم استبعاده من مؤسسات الدولة كلها ودون استثناء، ولذلك واجهت الأحزاب السياسية التركية التي تنضوي فيها عناصر متدينة صعوبات كبيرة في ممارسة العمل السياسي بحرية أولًا، وفي الكشف عن برامجها الإصلاحية ثانيًا، وفي تلبية المطالب الثقافية الحضارية للشعب التركي ثالثًا، خشية اتهامها بمعاداة العلمانية، بالرغم من وصول هذه الأحزاب إلى السلطة السياسية بالانتخابات الديمقراطية، وبالرغم من انها تمثل إرادة الشعب بكل مقوماته وشخصيته السياسية والدينية معًا.

وفي العقود الماضية تم إسقاط حكومات تركية منتخبة منها حكومة عدنان مندريس وتورجوت أوزال ونجم الدين أربكان، وقد تم إسقاط حكوماتهم بالانقلابات العسكرية المباشرة أو بالوصاية العسكرية، حتى كان الانقلاب الرابع في تاريخ الجمهورية التركية الحديثة بتاريخ 28 فبراير 1997، الذي يوصف بالانقلاب الأبيض أو الانقلاب الحداثي، لأنه الانقلاب الوحيد الذي لم يُستعمل فيه سلاحُ الجيش في قمع الحكومات المدنية التي تلبي المطالب الشعبية، ولكن حجة الانقلاب كانت هي نفسها في الانقلابات العسكرية الثلاث السابقة وهي الحفاظ على الحياة العلمانية التي فرضها الحكم الأتاتوركي منذ تأسيس الجمهورية في ظل نظام حكم عسكري واستبدادي وشمولي وأيديولوجي يرفض المطالب الشعبية ولو جاءت بالطرق الديمقراطية، ويرفض القيم التركية الحضارية بحجة أنها تاريخية وشرقية وغيرها.

ومنذ تأسيس حزب العدالة والتنمية عام 2001 بعد الانقلاب الحداثي عرض الحزبُ افكاره وبرامجه حول الديمقراطية المحافظة والعلمانية التي لا تعادي الدين وعرض منهجه في تلبية مطالب الشعب بالطرق الديمقراطية وغير الصدامية مع مؤسسة الجيش ولا مع غيره من مؤسسات الوصاية أو ما يسمى بالدولة العميقة، التي كانت في الغالب هي من تحرض الجيش على الانقلاب في المرات السابقة، وقد نال حزب العدالة والتنمية تأييد الشعب التركي له في أول انتخابات برلمانية يخوضها عام 2002 واستلم السلطة السياسية منذ ذلك التاريخ، وحتى هذا اليوم وهو ينال ثقة الشعب التركي في كل الانتخابات الشعبية، ودون أن يعرض المشروع التركي النهضوي للانقلابات العسكرية بحجة حماية العلمانية الأتاتوركية.

لقد كان حزب العالة والتنمية حذرًا في سلوكه السياسي والثقافي والحضاري ولا يزال على هذا الحذر أيضًا، ولذا فهو يفسر كل مشاريع قوانينه التي تلبي المطالب الشعبية بالدستور التركي والقوانين التي تحفظ حقوق المواطن وتحميه من التسلط وتحفظ صحته وسلامته، أي بالتفسير العلماني العلمي، فالتفسير العلماني هو التفسير الدنيوي لأية مسألة، والتفسير العلمي يبين جوانبها العقلية والتجريبية السليمة.

 وقد استعمل حزب العدالة والتنمية إرادة الشعب الانتخابية أولًا، والديمقراطية المحافظة ثانيًا، والعلمانية العلمية ثالثًا، ثلاث أسلحة في إيصال رسالته وتطبيق خططه وبرامجه بنجاح في كل مجالات الحياة التركية أولاً، ودون تعريض الحياة السياسية للانقلاب أو التدخل العسكري المباشر أو غير المباشر.

ومن الأمثلة العملية التي يعالج فيها حزب العدالة والتنمية هذه التعديلات القانونية التي تحفظ حقوق الشعب وثقافته وحضارته قوانين ضبط استهلاك الخمر في تركيا، فقد أدلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الأيام الماضية وخلال حديثه في إطار مشاركته في اجتماع أسبوع “الهلال الأخضر”، بتصريحات تطرق فيها إلى قانون تنظيم شرب الكحول وبيعها، فكان مما قاله أردوغان: ” بأن قانون تنظيم الكحول لا علاقة له بالتدخل في الحريات الشخصية”، وقد ذكّر أردوغان بأنه في مراحل سابقة من تاريخ تركيا قامت جهات بتعليم الأطفال كيفية شرب الكحول، وفي هذا السياق قال: “عندما تعودون إلى كتب التاريخ، للأسف تجدون أنه في مزارع غابات أتاتورك أطفال يحملون بأيديهم كؤوسًا من البيرة، قبل عامين عندما أصدرنا قانون تنظيم شرب الكحول وبيعها، والذي نعلم جيدا أنه سيحمل الخير لتركيا بعمومها، تم انتقاد هذا القانون من قبل الصحف، والإعلاميين، وبعض السياسيين أيضا. إن تناول الكحول يدخل ضمن قائمة الأسباب الـ 10 الأولى التي تؤدي إلى وفاة الإنسان عن طريق السرطان، بالإضافة إلى أنها سبب في ارتكاب العديد من الجنايات، وحوادث المرور”.

إن القانون الذي أشار إليه أردوغان هو قانون تنظيم الكحول، وقد صدر عام 2013، عندما كان أردوغان رئيسا لمجلس الوزراء، وتم التصديق عليه من قبل رئيس الجمهورية آنذاك عبد الله جول، وكان يتضمن عدم بيع الخمور من الساعة الـ 10 ليلا وحتى الـ 6 صباحا، ولا تستثنى من ذلك المناطق السياحية، وعدم بيع الخمور على حافة الطرقات التابعة للدولة، والمؤسسات الحكومية، وعدم بيع الخمور لمن هو دون الـ 18 سنة، وعدم السماح لأي إعلان يروج لعلامة تجارية خاصة بنوع من أنواع الكحول.

كل هذه القوانين وغيرها تم تنظيمها وإصدارها على أساس التفسير العلماني العلمي، من أ هذه القوانين مطابقة للدستور التركي أولًا، بل وتلتزم بمواده التي تحفظ الأسرة والأطفال لأسباب صحية وعقلية، وأن الإجراءات الأخرى هي المخالفة للدستور والتي تدمر صحة الأطفال وأسرهم، وهنا تساءل أردوغان: “بالله عليكم، ما علاقة الحرص على الأطفال، وحمايتهم من السقوط في عادات سيئة، والخوف عليهم من التعود على تناول الكحول بالحريات الشخصية؟ أضف إلى ذلك إن قانون حماية الأسرة موجود بشكل صريح في الدستور، وهذا الدستور لم نضعه نحن، إنما قام بوضعه القيادات السابقة، ونحن نعمل على ما يمليه علينا الدستور، للأسف هناك من يحاول بحجة الحريات التعدي على ثقافة، وتاريخ، ومدنية، ومعتقدات الآخرين”.

فالتمسك بالدستور يلزم الحكومة حماية الأسرة، والتفسير العلماني العلمي يقول بأن تناول الكحول يدخل ضمن قائمة الأسباب العشر الأولى التي تؤدي إلى وفاة الإنسان عن طريق السرطان، بالإضافة إلى أنها سبب في ارتكاب العديد من الجنايات، وحوادث المرور، فلماذا ينظر البعض إلى منع الخمر عن الأطفال على أنه تصرف أيديولوجي من حزب العدالة والتنمية أو المحافظة أو نوع من الأسلمة، فالمسألة متعلقة بالدستور أولاً، وبصحة المواطن التركي ثانيًا، وباحترام حقوقه الاجتماعية والحضارية ثالثًا، بينما الحجج التي يقدمها المخالفون هي حجج تقليدية للحياة الغربية الأوروبية ولكن دون التزام بالقوانين الأوروبية في هذا المجال. فمن يحتج بضرورات الحياة المعاصرة والتمدن الأوروبي يتجاهل أن التمدن الأوروبي يضبط استهلاك الخمر عند الأطفال، وهو ما انتقده أردوغان أيضًا قائلًا: “في المراحل السابقة أيام الحزب الواحد، قاموا بتعليق لافتات في الطرقات، حاولوا من خلالها إقناع الناس بأن تناول الكحول مفيد، وهناك عائلات بدأت بتعليم أبنائها في المرحلة الإبتدائية كيفية تناول البيرة، وقاموا بتحبيبها إليهم، نحن عشنا هذه المرحلة في بلادنا هذه، إن تناول الكحول، والتعود على العادات السيئة لا علاقة لها بالحداثة والتمدن”.

إن معركة العلمانية العلمية هي معركة الأجيال الحاضرة والقادمة التي ينبغي خوضها في إقامة المجتمعات والدول العربية والإسلامية الحديثة، فالحروب الدولية الظالمة التي تخوضها الدول الكبرى ضد الشعوب العربية والمسلمة تدعي أنها بهدف إقامة دول علمانية مقابل رفضها لمشاريع الشعوب في إقامة دولها بحرية، والتي تصفها الدول الكبرى بأنها دينية أو محافظة أو متشددة أو غيرها، وهذه ذريعة ثبت كذبها وزورها، وثبت أيضًا أن دعوى إقامة الدولة العلمانية في الشرق الأوسط أصبحت أداة استعمارية لقمع الشعوب وحرمانهم من حريتهم، ومنعهم من تقرير مصيرهم بأنفسهم، بينما العلمانية العلمية تمنح الشعوب حقوقها بالتمسك بما تؤمن به قيم وأفكار ثقافية ودينية وسياسية بإرادتها الحرة، ودون تسلط من أحد أو استبداد باسم العلمانية الغربية المتشددة في معاداة الدين، والتي فشلت في إسعاد الإنسان في دولها بعد أن خاضت به تجارب اقتصادية وسياسية شرقية يسارية أو غربية إقصائية ظالمة.

…………

خدمة ترك برس

شاهد أيضاً

د عز الدين الكومي يكتب :”إيران وأمريكا تهديدات وتطمينات”

كثير من العرب والمسلمين لا يزالون مخدوعين بشعارات التهديد والوعيد بين أمريكا وإيران ، بل …