محمد عزت الشريف يكتب: الحرية .. رسول ورسالة وقضية

 

الكلمة نور.. والنور لا يُغيِّبه ظلام

“إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا “

الأمانة في معناها العام:

أن يكون الأمر في ذمتك بلا أي وثيقة..

إذن فأنت حر إزاء الأمانة؛ أي أنّ لك كل الحرية في أن تؤديها أو لا تؤديها

وفي الآخرة أنت مُحاسَبٌ عليها.

الذي حصل أن الإنسان قَبِل حَمْلَ الأمانة ، وتعهَد بالمسئولية عنها أمام ربه.

ولكن هل كان الإنسان ظلوما لنفسه بالاختيار؟  أم كان الإنسانُ ظلوماً بطبعه من قبل موقف قبوله الاختيار؟

 وهل قَبول الإنسان لحمل الرسالة كان ممارسة من ممارساته المعبرة عن الجهل؟

أم أن علينا نحن “بني الإنسان” أن ننظر في ذلكم الموضوع نظرة أخرى جديدة؛ ومن زاوية أخرى مغايرة؟

حسناً، لماذا لا ننظر إلى ذلك الفعل الماضي “كان”

لنعرف أن ظلم الإنسان وجهله كان سابقاً في الزمن على الموقف الذي اختار فيه الإنسان حَملَ الأمانة ..

فإن كان الأمر كذلك؛ فلم لا يكون قرار قبول اختيار حمل الأمانة، هو أصلاً محاولة لتغيير واقع هذا الحال؟!

فإذا كان الإنسان ظلوماً بطبعه، وجهولاً باعتبار فطرته, أليس من الأنسب له أن يحاول تحسين حالته ويسعى إلى الإعلاء من شرفه, من خلال حمل أمانة الله التي عرضها عليه وعلى غيره من المخلوقات فأبين أن يحملنها وأشفقن منها؟

ولكن ما الذي ترتب على حمل الإنسان للأمانة من شرف؟

فلنتأمل النصوص الكريمة “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ” إنه شرف الاجتباء.

“وعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ” وهو شرف العلم المنقول.

“قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ”

إنه شرف آخر نحن نراه أنه شرف العلم المعقول، الذي يختص به الإنسان وحده، لأن الله أمدّه بأدواته، وأهمها: العقل، وقدرته على التفكير والتلقي عن الله سبحانه وتعالى العليم الحكيم .

 فالله سبحانه وتعالى كرّم آدم بالعلم؛ وأعطاه منه ما لم يعطه للملائكة؛ فلا الملائكة يعلمون الغيب ولا الإنسان .

لكن الإنسان لديه الحرية والقدرة على التفكير فيما هو معلوم للوصول إلى علم ما هو مجهول، وهذا يكون بالعقل الذي هو القلب الذي هو الصلة المهيئة لاستقبال إرسالات الله في كل زمان ومكان.

“قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ”

فقدرة الإنسان ـ لو تعلمون ـ أيها الملائكة لن تكون بذاته ولكن الله يبقى متصلاً به راحماً له, فالرحمة في معناها العام هي اتصال الله بخلقه؛ فالله متصل بخلقه بعد نزول آدم إلى الأرض عن طريق العلم بالقلم الذي هو العلم المنقول.

وعن طريق العلم المعقول الذي يلقي الله به في روع الإنسان.

فلنتأمل الآيات بمفهومها العميق: “اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)”

فالله الكريم الذي علّم الإنسان العلم القديم المنقول بالقلم، كان أكثر كرماً وبقى يُعلمه دائما العلم المعقول بالإلهام ووحي الفكرة والمعلومة يلقيها في قلبه.

ونعرض أمثلة لكيف يكون اتصال الله بالإنسان على الأرض ؟

ـ  عن طريق إرسال الرسل وإنزال الوحي عليهم ونأخذ مثالاً على ذلك بجبريل الذي كان يتنزل على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآيات من اللوح المحفوظ.

ـ وعن طريق المعلومة يؤتيها الإنسان بطرق عدة.. ومن الأمثلة على ذلك أن يُهيّئ الله لموسى كل الظروف ليأتي إلى العبد الصالح فيتعلم منه .

 وكذا ليأتي الهدهد ليقول لسليمان: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} ومن طرق الإمداد والعون وتهيئة الظروف { ولقد اتينا داودَ منّا فضلا يا جبالُ أوّبي معه والطير وألنّا له الحديد}

ـ وكذا يلهم الله الإنسان من غير الأنبياء والرسل بعد انقطاع الأنبياء والرسل  بالفكرة يلقيها في قلبه, ويُهّيّئ له الظروف لتفعيلها والإفادة منها.

كل طرق الاتصال هذه بالإنسان لم يكن يعيها الملائكة عندما أخبرهم بخلق آدم فتعجبوا فقال تعالى لهم:

(قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)

من هنا..

نتوجه إلى كل الذين يعاتبون الإنسان الأول ويتهمونه بالظلم والجهل لاختياره حمل الأمانة؛ أقول لهم: مارأيكم في الأمانة التي تحملونها الآن؟

أليس من الشرف لكل بني الإنسان أنهم قبلوا ـ دون سواهم ـ أن يحملوا الأمانة التي عرضها عليهم خالقهم، وعلى سائر المخلوقات؛ من أرض وسماوات وجبال؟

حقاً ما أشرف الإنسان الذي اختار لنفسه أن يختار!

ثم وبإرادته الحرة المستقلة اختار حمل الأمانة إذ عرضها خالقُهُ عليه وعلى سائر المخلوقات فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ !

نعم؛ ومَن لهذا الشرف غير الإنسان؟!

ـ مَن لهذه المهمة الخطيرة الجَلَل غير ذلك المخلوق الذي فضله الله على سائر المخلوقات بالنطق، والعقل، والفكر، والحركة؟!

ـ نعم؛ مَنْ لحمل تلك الأمانة غير الإنسان؛ ذلك المخلوق الأكثر حرية بين سائر المخلوقات.

وما الأمانة ـ أصلاً ـ إن لم تكن هي نفسها “الحرية”التي ترتب عليها الاختيار

لقد اختار الإنسان من البداية خيار الحرية؛ قبل أن يختار حمل الأمانة،  واختارت الكائنات جميعها ـ دونه ـ أن تكون مقهورة، مسخرة، مُسَيّرة.

لقد اختار الإنسان أن يكون مخيّراً في القيام بالتكليفات لا مُسخراً فيها لينال شرف أن يكون مسئولاً عن اختياره أمام خالقه وربه.

ما أجملها من ثقة للإنسان المخلوق في الرب العظيم الخالق المستحق وحده العبادة؛ ثقة في أن الرب العليم الحكيم سيمده من علمه وحكمته.

وسيظل يشمله برحمته وعنايته ليكون له معيناً على حمل تلك الأمانة، ليصل بها إلى بر الأمان؛ واثقاً في حُسن ثواب الآخرة كما هو واثق في حُسن ثواب الحياة الأُولى.

إذن فالأمانة مبدئياً كانت حرية اختيار

ثم  ـ وبآلية حرية الإختيار هذه ـ  كانت الأمانة هي القبول بالتكليفات التى جاءت يها رسالات السماء، من عهد آدم وحتى محمد بن عبد الله عليهم السلام. ومن ثم؛ نقول بأن بعثة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام بتمام الرسالة؛ إنما جاءت كإجراءٍ مهمٍ من إجراءات حمل وتحميل الأمانة.

وحيث أن الإجراء مهم، والمهمة عظيمة؛ فكان للخالق الإله العظيم أن يختار لأداء تلك المهمة رجلاً عظيماً كمحمد ين عبد الله

ولكن ..لماذا محمد؟

ألأن محمداً كان أميناً فاستحق شرف حمل وتبليغ الأمانة؟

أم لآنه كان صادقاً وقمينٌ بالناس أن يصدقوه فيما جاء به من تمام رسالات السماء؟

نعم كان محمداً “صادقاً أميناً” بشهادة جميع قومه من قبل بعثته

لكن محمداً أيضاً كان مثالاً وأُنموذجاَ للرجل الحُرّ

محمدٌ كان حُرّا..

نشأ وتربى في بيئة حرة

وهنا يليق بنا أن نتساءل:

عندما استحقت أمة العرب شرف حمل الرسالة، وتبليغها.. بماذا استحقته؟

شاهد أيضاً

وائل قنديل يكتب : عبّاس وغانتس: إجماع فاسد أم انقسام حميد؟

لا ينتعش محمود عبّاس، وتدبّ فيه الحياة والقدرة على استئناف نشاطه في “مقاومة المقاومة” إلا …