مصطفي كامل السيد يكتب : رؤساء مصر.. أوجه الشبه والاختلاف

مرت يوم الأحد الماضى الذكرى الرابعة بعد المائة لمولد الرئيس الأسبق الراحل جمال عبدالناصر، وهو القائد الحقيقى لثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ التى كانت البداية لتولى العسكريين حكم مصر. ورغم أن منصب رئيس الجمهورية قد تولاه منذ ذلك التاريخ شخصيتان مدنيتان هما كل من محمد مرسى من يونيو ٢٠١٢ حتى يونيو ٢٠١٣، وعدلى منصور من يوليو ٢٠١٣ حتى يونيو ٢٠١٤، إلا أن فترة حكم كل منهما كانت فترة قصيرة وانتهت كل منها بعودة شخصية عسكرية لحكم البلاد على نحو غير مباشر فى حالة الأول وعلى نحو مباشر فى حالة الثانى.. ولكن لم يكن أى منهم نسخة مطابقة لمن سبقه. ولذلك فإن استمرار حكم مصر بشخصيات ذات خلفية عسكرية لا يعنى إمكان توقع السياسات التى يمكن أن يتبعها رئيس قادم. ألم يوصف الرئيس الراحل أنور السادات أثناء حكم الرئيس جمال عبدالناصر بأنه رجل الطاعة «Yes man». ومع ذلك قيل عنه بعد أن تولى الحكم إنه بالفعل كان يسير على خطى عبدالناصر ولكن بالعكس، وجاء الرئيس عبدالفتاح السيسى مدعوما من أنصار ثورة ٢٥ يناير الذين تصوروا أنه سيتبع مبادئ هذه الثورة، ولكنه أصبح يكرر فى خطاباته الرئاسية تحذير المصريين من أى ثورة، وتذكيرهم بالخراب حسب وصفه الذى لحق بالبلاد نتيجة «لأحداث يناير» التى يحرص على تجنب وصفها بالثورة. فما الذى يفسر تباين التوجهات بين هؤلاء الرؤساء على الرغم من أنهم جاءوا جميعا من نفس المؤسسة، ولهم نفس الخلفية المهنية؟
طبعا هناك سمات مشتركة تجمع بينهم. هم جميعا من أصول اجتماعية متقاربة، وهم فى توليهم السلطة كانوا يديرون المجتمع كما لو كان جيشا واحدا يخضع للأوامر ويسير متراصا وبانتظام خلف قيادته. ومع ذلك فرغم هذه السمات المشتركة، هناك خلافات هامة بل وجوهرية فى توجهات الحكم لكل من هؤلاء الرؤساء الأربع فى السياسات الداخلية والخارجية فى الاقتصاد والاجتماع والثقافة، فما هو تفسير هذه الخلافات، والتى تجعل المصريين لا يتفقون حتى فى حنينهم للماضى، هناك من يحن لأيام عبدالناصر، وآخرون يحنون لأيام السادات، وفريق ثالث يحن لأيام مبارك، وتوصيف كل منهم لتلك الأيام لا يتفق بالطبع مع توصيف الآخرين لأيام نفس الرئيس.
هناك اتجاهات متعددة فى تفسير هذه الخلافات، ولا أزعم قولا فصلا فى هذا الأمر، وإنما أطرح بعض الاجتهادات، على أمل أن يتعمق آخرون فى محاولة الإجابة على هذا السؤال. وأعتبر ما يأتى فى السطور التالية مجرد افتراضات قابلة بطبيعة الحال لمزيد من التمحيص والتدقيق، معتمدا على ما جاد به علماء السياسة والاجتماع فى آثار التنشئة والوضع الوظيفى والسياق الاجتماعى التاريخى لظهور القيادات السياسية، وعلاقات القوى الإقليمية والدولية عند شغل هذه القيادات لمركز الحياة السياسية فى بلادهم.

عناصر التنشئة
الرؤساء الأربع لهم نفس الخلفية الاجتماعية، ولدوا فى أسر من صغار الموظفين باستثناء الرئيس عبدالفتاح السيسى الذى كان والده تاجرا فى حى الجمالية، وقضى اثنان منهما سنوات الطفولة فى الريف هما السادات ومبارك، التى امتدت إلى سنوات الصبا فى حالة مبارك، بينما قضى كل من عبدالناصر والسيسى سنوات التكوين وسائر سنوات الحياة فى المدينة، الإسكندرية فى حالة عبدالناصر والقاهرة فى حالة الرئيس السيسى.
أحد عناصر التنشئة هى الثقافة التى اكتسبها كل منهم. يشير الرئيس السادات إلى تأثره بالقصص التى كانت تحكيها أمه وجدته الريفيتان ولكنه من خلال قراءاته كان معجبا بشخصية كمال أتاتورك الذى قاد تركيا على طريق التحديث الذى يحاكى الدول الغربية، ولا نعرف الكثير عن طفولة عبدالناصر الذى فقد أمه فى سن مبكرة، ولكن نعرف من خلال قائمة القراءات أثناء دراسته فى الكلية الحربية أنه كان واسع الاطلاع ومغرما على وجه الخصوص بكتب التاريخ والاستراتيجية العسكرية، كما لا نعرف الكثير عن طفولة كل من الرئيسين حسنى مبارك أو السيسى أو قراءات كل منهما، وأشار الرئيس السيسى فى مقابلة تلفزيونية أنه كان كثير القراءة فى شبابه ولكنه توقف عن القراءة بعد التحاقه بالجيش لكثرة مشاغله.
عنصر آخر فى تنشئة هؤلاء الرؤساء هو خبرتهم السياسية قبل وصولهم إلى منصب الرئيس. كل من جمال عبدالناصر وأنور السادات كانا الأوسع من حيث الخبرة السياسية. كان عبدالناصر نشطا فى مظاهرات الطلبة فى ثلاثينيات القرن الماضى قبل التحاقه بالكلية الحربية، تلك المظاهرات التى كانت تطالب السياسيين بالاتفاق فيما بينهم ليشكلوا كتلة واحدة فى مفاوضات الاستقلال مع البريطانيين. وبعد التخرج من الكلية الحربية تعددت اتصالاتهما مع الأحزاب السياسية التى كانت نشطة فى ذلك الوقت، كما كان الحال مع سائر الضباط الذين شكلوا فيما بعد مجلس قيادة الثورة. اتصل عبدالناصر بمعظم التيارات السياسية فى العهد الملكى وشمل ذلك الطليعة الوفدية والشيوعيين ومصر الفتاة والإخوان المسلمين، واتصل السادات بمصر الفتاة وبالإخوان المسلمين، وضم أصدقاء عبدالناصر المرحوم أحمد فؤاد الذى كان قريبا من يسار الوفد المعروف بالطليعة الوفدية والضابط خالد محيى الدين القريب من الشيوعيين وثروت عكاشة صاحب الثقافة الرفيعة، واقترب السادات من الفريق عزيز المصرى الذى كان معروفا بوطنيته وعدائه للاستعمار البريطانى، وانخرط السادات فى محاولات مسلحة استهدفت السياسيين المعروفين بعلاقاتهم الطيبة مع ممثلى دولة الاحتلال أو حتى القيادات الوفدية التى اتهموها بالتواطؤ مع المحتلين وفى مقدمتها المرحوم مصطفى النحاس زعيم الوفد بعد رحيل سعد زغلول زعيمه الأول. كما انخرط السادات أيضا فى الاتصال بالضباط الألمان الذين كانت قواتهم قد دخلت صحراء مصر الغربية وتوقفت عند العلمين خلال الحرب العالمية الثانية. وبينما شارك جمال عبدالناصر مع عدد من ضباط الجيش الآخرين فى حرب فلسطين وخاض معارك ضد القوات الإسرائيلية لم يشارك السادات فى تلك الجهود فقد كان مفصولا من الجيش فى ذلك الوقت.
انخراط السادات فى أنشطة المقاومة ضد السياسيين المتعاطفين فى رأيه مع الاحتلال ومساندة القوات الألمانية جرت عليه المرور بالسجن والمحاكمة والفصل من الجيش والهرب، بينما كانت أنشطة عبدالناصر تتسم بالسرية، ولكن ذاع عنه محاولته تنظيم ضباط الجيش مما أدى إلى استدعائه من جانب قيادات الجيش وتحذيره من الاستمرار فى هذه الأنشطة قبل أسابيع من حركة الضباط فى يوليو ١٩٥٢. من ناحية أخرى لم يعرف عن الرئيسين مبارك أو السيسى أى اهتمامات سياسية محددة قبل التحاقهم بالقوات المسلحة أو حتى بعد ذلك وقبل توليهم مناصب رفيعة فيها. التحق الرئيس مبارك بالكلية الجوية واقترب الرئيس السيسى من القوات المسلحة بانتظامه للدراسة فى مدرسة ثانوية عسكرية ثم بالكلية الحربية بعد ذلك.
أحد عناصر التنشئة المهمة هى الاتصال بالعسكريين الأجانب. تلقى كل من الرئيسين عبدالناصر والسادات الفن العسكرى على يد ضباط بريطانيين الذين كانوا يدرسون لهم فى الكلية الحربية، وعمل عبدالناصر معهم فى الصحراء الغربية، ولذلك اكتسب الاثنان المعرفة باللغة الإنجليزية وأجادا التحدث بها، وأعجب عبدالناصر تحديدا بالعسكرية البريطانية وخصوصا بقائد معركة العلمين الشهير المارشال منتجمرى، حتى وإن كان معارضا للوجود العسكرى البريطانى فى مصر، بينما كان السادات من الناحية الأخرى أكثر إعجابا بالعسكريين الألمان وروميل قائدهم فى معركة العلمين. ومن الناحية الأخرى عرف حسنى مبارك العسكريين السوفيت الذين تدرب على أيديهم فى الاتحاد السوفيتى وعمل مع خبرائهم فى مصر قبل حرب ١٩٧٣، واكتسب المعرفة باللغة الروسية، ولكنه كان يعرف أيضا اللغة الإنجليزية ويتعامل بسهولة معها فى لقاءاته بالسياسيين الأمريكيين والبريطانيين. وقد حضر الرئيس السيسى دورات تدريبية فى كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وله بحث باللغة الإنجليزية عن الإسلام والسياسة، ورغم إجادته للانجليزية يفضل اللغة العربية فى تواصله مع الزعماء الأجانب وفى لقاءاته الصحفية والتلفزيونية مع الإعلاميين من دولهم.

آثار التنشئة
ما الذى نخرج به من هذا المسح لظروف تنشئة هؤلاء الرؤساء يفسر تباين السياسات التى اتبعوها بعد توليهم السلطة؟
الخبرة السياسية الواسعة لعبدالناصر واتصالاته بأطراف متنوعة فى الحركة الوطنية المصرية جعلته يتبنى مطالب هذه الحركة فى السعى للاستقلال ومحاربة الاستعمار والدعوة للإصلاح الزراعى والتصنيع وانتهاج سياسة الحياد وعدم الانحياز وكلها كانت أفكارا رفعتها فصائل مختلفة لهذه الحركة، وشهوره فى حرب فلسطين جعلته يدرك مشاركة مصر للشعوب العربية فى العداء لعدو مشترك هو الكيان الصهيونى الذى كان يدرك خطورته، بينما كان السادات أقرب إلى فصيل فى الحركة الوطنية يعادى الديمقراطية ويتعاطف مع القوى الدولية المناوئة للديمقراطية كما أن عدم مشاركته فى حرب فلسطين جعلته بين أسباب أخرى يرى فى الوقوف مع الفلسطينيين والعرب عموما عبئا على مصر يبرر إعلاء الهوية المصرية فوق الهوية العربية على العكس من عبدالناصر الذى لم يكن يرى تعارضا بين الهويتين.
لم يكن لأى من الرئيسين حسنى مبارك أو السيسى مثل هذه التجربة السياسية قبل التحاقهما بالقوات المسلحة، وإن كان الرئيس مبارك قد اكتسب جوانب من هذه الخبرة أثناء عمله مع الرئيس السادات نائبا طوال الفترة من 1975 حتى سنة ١٩٨١ التقى أثناءها بكثير من القادة الأجانب وراقب الحياة السياسية فى مصر عن كثب.

الوضع الوظيفى والتوجهات السياسية
وفضلا على ذلك يرى بعض علماء السياسة أن توجهات القادة ذوى الخلفية العسكرية فى دول الجنوب تتأثر كثيرا برتبتهم فى الجيش قبل تدخلهم فى السياسة. يرى أحد هؤلاء العلماء أن الضباط ذوى الرتب الصغرى من ملازم حتى نقيب هم فى حركاتهم المسلحة أقرب إلى الثورة على النظام القائم الذى لم يكتسبوا فيه مصالح يعتد بها، أما الضباط من الرتب الوسطى مثل المقدم أو العقيد فقد تكونت لهم بعض المصالح تجعلهم أكثر حرصا على عدم الإطاحة بالنظام القائم ولكنهم أميل إلى إصلاحه، أما كبار الضباط الذين يشغلون رتبة الجنرال فهم أعضاء فى الطبقة العليا فى بلادهم، ولذلك يكون تدخلهم هو للحفاظ على النظام القائم. يختلف كثيرون فى تقييم تدخل ضباط الجيش من الرتب الوسطى فى الحياة السياسية فى مصر فى يوليو ١٩٥٢، وما إذا كان محاولة للإصلاح أو ثورة، فعلى الرغم من الدعوة للاشتراكية إلا أن الملكية الخاصة استمرت هى قاعدة الاقتصاد فى الزراعة وفى المشروعات الصناعية والتجارية متوسطة الحجم. وكان نظام الحكم فى مصر فى ظل الرئيسين مبارك والسيسى اللذين وصلا إلى رتبة الفريق قبل توليهما هذا المنصب يشكل استمرارا للقسمات الكبرى لنظام الرئيس السادات مع ميل مبارك للابتعاد عن سياسة المفاجآت التى كان السادات مغرما بها، ومع تفضيل الرئيس السيسى لتعميق دور القوات المسلحة فى كافة مناحى الحياة فى مصر. ويعزز من هذا التفسير أن القوات المسلحة التى عرفها عبدالناصر والسادات كانت أقرب إلى مجرد واحد من الأجهزة البيروقراطية للدولة وليست كيانا متشعبا متعدد الأذرع والأنشطة يشكل نمط حياة أفراده من خلال قنوات رسمية وغير رسمية. الجيش قبل يوليو ١٩٥٢ كان مجرد وزارة الحربية، ولكن اكتسبت القوات المسلحة وصف المؤسسة بعد توسعها تدريجيا إلى أنشطة متعددة تمتد فى الوقت الحاضر من الأمن والإدارات المحلية إلى التنظيمات السياسية والاقتصاد فى الزراعة والصناعة والتجارة والمرافق العامة والسياحة والإعلام والتعليم، ولذلك فبينما كان الجيش هو إحدى قنوات التنشئة لعبدالناصر والسادات إلى جانب مشاركتهما فى الحياة المدنية أصبحت المؤسسة العسكرية المنفصلة عن المجتمع المدنى هى القناة الكبرى للتنشئة المستمرة لمن يلتحقون بها وأسرهم خلال العقود الأربع الماضية.
ولكن رؤية الرؤساء ذوى الخلفية العسكرية تتشكل أيضا بلحظة توليهم السلطة واتصالاتهم بالقيادات والدول الأجنبية وبالسياق الإقليمى والدولى خلال ممارستهم للسلطة.

نقلا عن صحيفة الشروق

شاهد أيضاً

وائل قنديل يكتب : عبّاس وغانتس: إجماع فاسد أم انقسام حميد؟

لا ينتعش محمود عبّاس، وتدبّ فيه الحياة والقدرة على استئناف نشاطه في “مقاومة المقاومة” إلا …