ياسين اكتاي يكتب:الحداثة والدستور واستثنائية تركيا

في مطلع القرن العشرين، كان مفهوم الحداثة الذي لاقى رواجًا آنذاك يرى أنّ جميع التطورات التي حدثت في الغرب تصلح لأن تكون نموذجًا يمكن تطبيقه في العالم بجميع أنحائه، بل ويرى أنّ تطبيق ذلك ضرورة بحد ذاتها.

ولو نظرنا إلى هذا التفكير بعين اليوم، سيبدو بأحسن الأحوال أنه فهم ساذج للغاية عدا أنه جاهل، وغير قادر على إدراك أهمية الاختلافات الاجتماعية. حيث أن الحداثة بمعناها اليوم تبدو بعيدة كل البعد عن تبني أو حتى تحمّل مسؤولية هذا الجهل والسذاجة. بل إنها باتت تعرّف الاختلافات الاجتماعية تحت عناوين؛ “الحداثة المختلفة”، أو “أصالة وخصوصية البلدان”، أو “الطرق المتعددة التي تؤدي للحداثة”.

من المتعارف عليه أن تجربة اجتماعية ما؛ لا يمكن تطبيقها بالطريقة ذاتها في منطقتين جغرافيتين. وإنّ هذا يعتبر في الحقيقة من أكثر المسلمات الأساسية في علم الاجتماع، لكن على الرغم من ذلك نجد أن مفهوم الحداثة بمراحله الأولى كان مغايرًا لذلك وبمنتهى السذاجة.

كانت هذه البساطة وما تحتويه من سذاجة كفيلة لجذب اهتمام من يؤمن بها، وبالطبع كانت كافية لإقناعهم، إلا أن النتائج السياسية التي تمخضت عنها لم تكن سوى ذراع كشف يعبّد طريق الإمبريالية الغربية. أما الذين اقتنعوا بها فلم يحصدوا سوى الوقوع في غفلة، سولت لهم تأسيس منظومة تنويرية غريبة عن ثقافتهم ومعتقدهم وعاداتهم. رضوا لأنفسهم أن يكونوا نشطاء متطوعين وعملاء فضوليين شغفوا بالتسويق للإمبريالية الغربية في مجتمعات ليست غربية.

إن البلاد الغربية لم تكن تريد يومًا ما تحقق الحداثة والتقدم والتنمية للبلاد الأخرى. تمامًا كما أنّ الدول الديمقراطية الغربية اليوم، لا ترغب على الإطلاق بأن ترى ديمقراطية في البلدان المسلمة. حيث أنّ الديقراطية بالنسبة لهؤلاء نظام لا يمكن تطبيقه سوى عند الغرب، بغض النظر طبعًا عن مدى جدية تطبيقه عندهم أيضًا.

هناك نقطة هامة، وهي أن الدول غير الغربية حينما تسعى نحو الديمقراطية لا بد لها أن تعتمد إذن على شعوبها وتستند إليهم، وهذا يعني بالتالي استقلال هذه الدول عن التبعية الغربية، وإن رغبة الغرب بذلك مستحيل على الإطلاق من الناحية الوجودية.

إن أهم التحليلات والالتفاتات التي أجراها الوزير الأعظم العثماني، سعيد حليم باشا، حول “القانون الأساسي”؛ هو تأكيده على خصوصية وأصالة البلدان والمجتمعات، ومن بينها تركيا. وإنّ هذه الأصالة/الخصوصية هي أكبر عائق في نقل تجربة ما في بلد ما بحذافيرها نحو بلد آخر. لا سيما من حيث الفروقات العميقة فيما بين المجتمعات الغربية والمجتمع العثماني؛ كان من المستحيل نقل تجربة دستورية كما هي عليه من هناك إلى هنا.

وانطلاقًا من هذا المبدأ الأساسي يدخل حليم باشا نحو عمق الاختلافات ما بين المجتمعات الأوروبية والعثمانية، من خلال أمثلة ملموسة.

إن المجتمع العثماني قبل أي شيء؛ هو مجتمع قائم على الاختلافات التي حصر لها داخل هذا المجتمع ذاته. حيث أنك تجد داخل الجغرافيا العثمانية المترامية جميع أنواع الاختلافات سواء من حيث الدين أو اللغة أو العرق أو الثقافة ومستوى التطور. وربما هذه الاختلافات بحد ذاتها أدت دفعت علماء الاجتماع في الغرب لوصف هذه المجتمعات بالمجتمع الفسيفسائي.

هذا التوصيف بحد ذاته قد تمّ تطويره بدوافع استشراقية من قبل علماء الاجتماع الأوائل في الغرب، من خلال ربط الضعف بالمجتمع العثماني الإسلامي. ولا شك أنّ هذا التطوير للتوصيف لا يخلو من إيحاءات سلبية، تحاول الإشارة إلى أنّ الإسلام ليس قويًّا بما فيه الكفاية لخلق ثقافة متجانسة. لكن على العكس تمامًا؛ حيث إن عدم وجود سياسة إلى جانب الإسلام من أجل خلق مجتمع متجانس؛ لا يشير إلى ضعف الإسلام على الإطلاق، بل يشير إلى قوته وثقته بنفسه، كما يُظهر بالطبع مدى ملائمة الإسلام للحرية الثقافية والدينية، والتعددية على حد سواء.

لذلك السبب نجد أنه من الحقائق التاريخية أن الشرائح غير المسلمة داخل المجتمعات الإسلامية تساوي أو تكاد تفوق عدد المسلمين أنفسهم، وقد ظلت موجودة على مر التاريخ بكل اختلافاتها وفروقاتها تعيش في أمان وحرية.

على صعيد آخر، نشير إلى أن التجانس الثقافي والديني الذي يميز الغرب؛ ليس ناتجًا بطبيعة الحال عن قوة المجتمع الغربي، على العكس بل هو نتيجة عدم تسامح الغرب مع الاختلافات وتعصبه تجاهها. وعلى الرغم من عدم تحمل الغرب للأديان والثقافات المختلفة داخل مجتمعاته، إلا أنه يحتوي على اختلافات “طبقية” عميقة في داخله؛ هناك برجوازية وأرستقراطية في المجتمعات الأوروبية، تتمتعان بسلطة كبرى تتحكم من خلالها بمصير الشعوب. بيد أننا نجد أن هاتين الشريحتين على حد سواء إما معدومة في المجتمع العثماني، أو موجودة لكن دون أدنى أهمية تُذكر.

وفي السياق ذاته، يؤكد حليم باشا على وجود طبقة الموظفين التي تتمتع بقوة كبيرة للغاية، بموازاة الأرجوازية والأستقراطية اللتين كانتا غير موجودتين في المجتمع العثماني. حيث تعتبر طبقة الموظفين أكثر الطبقات حضورًا ونشاطًا داخل المجتمع العثماني. ولأن هذه الطبقة كانت تمثل قوة الدولة، فإنها كانت تتمتع بمكانة وتأثير قويين للغاية في نظام التقسيم الطبقي الاجتماعي، وبالتالي كانت مثالية للجميع. لدرجة أن أعظم مثال نموذجي بالنسبة للمثقفين المتعلمين هو أن تكون موظفًا حكوميًّا.

إلى أن هذه الطبقة لم تكن تخلو من روح اللامبالاة والتهرب من المسؤولية والواجب كصفات جوهرية تمثلها بحق، مما جعلها فاقدة مع الوقت لأي نوع من أنواع التضحية وروح المبادرة الشخصية. على عكس حال المحسوبين على الطبقة الأرستقراطية والبرجوازية حيث تجدهم أحرارًا ومستقلين ضمن تحركاتهم، وأكثر جرأة وإصرارًا، كما أنهم يحبون العمل والمسؤولية ولديهم مشاعر تضحية.

عند هذه النقطة من المقارنة بين المجتمع الأوروبي والعثماني نجد أن المؤشرات كانت ضد المجتمع العثماني. وفي الواقع نجد أن ماكس فيبر أيضًا كتب شبيهًا لهذه التحليلات، لدرجة أنها سجلت في الخطابات الاستشراقية في علم الاجتماع الأوروبي. إلا أن تحليلات حليم باشا ركزت بشكل أساسي على خطورة محاولة استيراد تجربة دستورية ما، دون أخذ الظروف الاجتماعية والطبقات التي يقوم عليه المجتمع بعين الاعتبار.

بطبيعة الحال لا يوجد لدينا أي معلومة حول ما إذا كان فيبر أو ماركس قد اطلعا على تحليلات والتفاتات حليم باشا، إلا أن القوة الاجتماعية التي حظيت بها تحليلاته فيما بعد، كان لها أوجه تشابه قوية جدًّا مع الأدب الاجتماعي للعصر.

لكن بالطبع حليم باشا لم يفعل ذلك من منطلق أن يبين لنا أن لا طريق أمامنا سوى أوروبا، بل من أجل التركيز على أصالة المجتمع العثماني وأن التقليد الأعمى للمؤسسات الغربية أمر غير مناسب.

شاهد أيضاً

وائل قنديل يكتب : عبّاس وغانتس: إجماع فاسد أم انقسام حميد؟

لا ينتعش محمود عبّاس، وتدبّ فيه الحياة والقدرة على استئناف نشاطه في “مقاومة المقاومة” إلا …