القرآن وتعاليه

يأسرني الأسلوب القرآني في تعاليه وقطعيته، ومنهما يشعّ قبسٌ إلهيٌ وهّاج. لا يسير معك القرآن سير من يريد أن يفكّر معكَ أو يقارب التعميم ويخشاه، أو يتلصص على القطعيات ويدور حولها، وإنما يلقي إليكَ بالحقائق ناجزةً تامّة ويجبهك بها جبهًا. فبعد سبع آياتٍ فقط. يكشف لك عن حقيقته. “ذلك الكتاب لا ريب فيه”. تمضي في قراءتك فتمتلئ بالعبارات المحصّنة بإن ولام التوكيد، فهو كتاب يريد أن يبني قارئه ويغرس فيه غاياته، وليس كتابًا يبحث عن أجوبة خارجه، وإنما هو بنيان متكامل وكيان مستقل. يتجلى اسم الله الغني مع تكرر قصص التكذيب والعناد البشري، ويتراكم فيك نوع من التعاطف مع حرص الأنبياء على هداية أقوامهم، فتوقظك آياته ببيانٍ مهيب وتخلعك من أوهامك “ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَىٰ ۖ كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ ۚ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ۚ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ” يا للجلال! فجعلناهم أحاديث!.

 

من يأتي للقرآن من حقول دراسات الفلسفة وعلوم الإنسان، يشعر بتيارٍ كهربائيٍ يخترقه مع كل سورة. يلقي إليك القرآن بأجوبة في عبارات خبرية. ثم يستدل عليها لاحقًا. ترتيب النتائج على المقدمات من عمل المخلوق الفقير، الذي تغيب عنه النتيجة متى ما تخلفت مقدماتها، أما الكلام الإلهيّ فصدقه لا يعتمد على ترتيبات منطقية، وإنما من كمال الذات الصادر عنها. وإن كان فيه (أعني القرآن) حجاج يناسب وسائل المخلوق ليفهم ويتدبر ويصل إلى بعض حقائقه بطريقته المألوفة.

 

تنظر في فهرس القرآن فترى سورة بعنوان “الإنسان” فتقلّب الصفحات بحثًا عنها وفي ذهنك ضجيج من الزهو المعرفيّ الذي أحاط الإنسان به نفسه، حتى صيّر نفسه مركزًا للكون ومحورًا للعالم، حتى تسيّد على ما لا يقدر عليه، وهجم على الغيب فنفاه. وفي أول مصافحة لعينيك لاسم السورة، وذهنك يغلي بالأفكار كما تغلي القِدرُ على النار، يفقدك أول سطر فيها اتزانك، ويهجم عليكَ من حيث لم تكن تحسِب. “هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا. إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا.” يا للمفاجأة ويا للتعالي المتزن الذي يعيد في عينيك الأشياء إلى حقائقها، من غير زيف ولا بطر.

 

عبد القدوس الهاشمي

 

شاهد أيضاً

د علي محمد الصلابي يكتب :ليلة النصف من شعبان.. أحكام وفضائل

حرص السلف الصالح أشد الحرص على الأوقات، خصوصا فيها الأعمال التي حباها الله تعالى بمزيد …