عبدالتواب بركات يكتب : السيسي ينحني للعاصفة

حاول السيسي استخدام الجزرة في مغازلة الطبقة المتوسطة، ولكنه تأخر كثيرًا، مثل حكام دول الربيع العربي المصابين بالصمم الوظيفي

في مواجهة زلزال الفضائح التي كشفها المقاول والفنان محمد علي واتهامه وزوجته باهدار مليارات الجنيهات من المال العام في بناء قصور رئاسية بازخة بالتواطؤ مع الإدارة الهندسية التابعة للقوات المسلحة، القبضة الأمنية، لم يستخدم الجنرال عبد الفتاح السيسي إستراتيجية “وقف العنف”، وهي استراتيجية ناجحة في التعامل مع أزمات الرأي العام والاحتجاجات في الدول الديقراطية، ومن خلالها يبادر رئيس الدولة بالإعتذار، وربما باستقالة الحكومة كاملة، وبذل الجهد لمنع تدهور الأزمة ووصولها إلى درجة الانفجار، والنزول على رأي الجماهير الغاضبة حتى يحل الأزمة من جذورها.

وفي حالة مثل الأزمة المصرية، يُتَطلب من رئس الدولة، وفق إستراتيجية وقف العنف، تقديم الإعتذار للجماهير، والإعلان عن اصلاحات فورية تعالج الأفق السياسي المسدود، وفتح المعتقلات، وتحسين الأجور وخفض الضرائب، واتخاذ قرارات اقتصادية لصالح الطبقات الفقيرة والشباب المحبط والمقعد عن العمل، ووقف شلال الدم والقتل والتصفية الجسدية للمعارضين، وربما الدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة تطيح برأس النظام إذا استدعى الأمر للحافظ على جسم المنظومة.

أنا عامل وهعمل

اختار طبيب الفلاسفة الأسلوب الذي تجيده الديكتاتوريات، وهو أسلوب “بخس الأزمة”، ويقوم على اعتراف الديكتاتور بالأزمة ثم العمد إلى التقليل من شأنها بجانب الإنجازات الضخمة التي ينجزها فخامته للوطن. ثم يسخر الديكتاتور من القوى المحركة للأزمة، ويخونها ويتهمها بتهديد الدولة وتقويض إنجازاته.

فاعترف الجنرال ببناء القصور الرئاسية باستهتار، بل وجزم ببناء غيرها في صفاقة لا يحسد عليها بقوله: “طيب قصور رئاسية.. آه أومال إيه.. أنا عامل قصور رئاسية.. وهعمل.. أنا اعمل واعمل واعمل”، ثم قلل من قيمتها التي لا تقارن بقيمة الدولة الجديدة التي يبنيها، ولا بقيمة الهدايا التي تلقاها “اللي جات له”، وفق تعبيره، والتي تزيد عن قيمة هذه القصور بمقدار ألف مرة ولكنه يزهد فيها ويودعها المتحف، ولا بقيمة المشروعات الضخمة التي أنجزها خلال خمس السنوات الماضية، والتي قال إنها تكلفت 4 تريليونات جنيه.

ثم سخر من محرك الأزمة، المقاول محمد علي، وقلل من العدد الذي يتابعه، وقال: “بقى القصور اللي موجودة في مصر بتاعة محمد علي.. وبس؟!.. هه.. هه.. هه.. ويقولك فلوس الشعب وقناة السويس والكلام الصغير اللي بيتقال ده.. لأ يا جماعة لأ؟!”، ثم اتهمه بالإساءة لجيش مصر، مركز الثقل في المنطقة، وكذلك الإيقاع بمصر، رغم أن المقاول لم يتعرض للجيش بسوء، واتهمه وزوجته وبعض قيادات الإدارة الهندسية فقط.

حاول السيسي أن يضع بصمته الفريدة في معرض الرد على اتهامات محمد علي، فزادت مساحة الغضب ضده، ما اضطره إلى احتواء الجماهير الغاضبة بطريقة “تنفيس الأزمة”، وهي طريقة تقليدية أيضًا، ويطلق عليها “تنفيس البركان”، وفيها ينحني رئس النظام للعاصفة حتى لا يحدث انفجار جماهيري شامل، وذلك بتخفيف القبضة الأمنية والسماح ببعض المظاهرات لتنفيس حالة الغليان والغضب الجماهيري، وهو ما حدث في جمعة 20 سبتمبر.

ولكن الغضب والمظاهرات كانت أكبر من توقعات النظام، في القاهرة دخلت ميدان التحرير، رمز ثورة يناير التي حذر الجنرال للتو من تكرارها، وفي الأسكندرية ومعظم محافظات الوجه البحري والقبلي، وفي المحلة الكبرى، المدينة العمالية ذات الرمزية الثورية التي أسقطت هيبة المخلوع مبارك، وفي دمياط والمنصورة أسقطوا صورة السيسي وداسوها بالأقدام، وكسر جدار الخوف الذي حرص على تشييده الجنرال السيسي طوال سنوات حكمه، وتوحد هتاف المتظاهرين “ارحل يا سيسي”.

مراوغة لا تراجع

رأى البعض أن السيسي “جاب ورا” وتراجع عن سياساته بعد مظاهرات 20 سبتمبر، وأن خطابه السلطوي الفوقي تغير إلى الإستعطاف والتفهم، وعمدت الأذرع الأعلامية إلى إظهار الجنرال بمظهر الأب الحنون، ورأى آخرون أن الجنرال انحنى للعاصفة حتى تمر، ويتخذ قرارات تكتيكية لامتصاص الغضب، وسرعان ما تعود ريمة لعادتها القديمة، ولن يغير سياساته الإستراتيجة المتشددة.

رئيس البرلمان كان نشاذًا في اتهامه الوزراء والمحافظين بالتقصير وتصدير الأزمات للرئيس المبتلى بهم، حتى كاد يحملهم مسؤولية بناء القصور الرئاسية وحذف الملايين من البطاقات التموينية وإغراق الجنيه ورفع أسعار الكهرباء والغاز والوقود، وهم مساكين ليسوا إلا سكرتارية عند الجنرال، أشقياء بعملهم في حكومته.

بعد 20 سبتمبر، ومع تزايد الغضب وقبل تدحرج كرة الثلج وقبل أن تسقط هيبة النظام بالكلية، استخدم السيسي العصا لتخويف الناس وإرهابهم، فأطلق قوات الأمن لاعتقال الآلاف من الناشطين، وأحكم إغلاق مداخل القاهرة وميادينها في وجه المتظاهرين الذين زحفوا من الأقاليم في يوم الجمعة التالي، ومنع أي تجمع أمام المساجد وفض أي تظاهرة وتوسع في الإعتقالات وأحكم السيطرة الأمنية مرة أخرى.

حاول السيسي استخدام الجزرة في مغازلة الطبقة المتوسطة، ولكنه تأخر كثيرًا، مثل حكام دول الربيع العربي المصابين بالصمم الوظيفي، فلا يسمعون صوت الشعوب إلا متأخرًا، ولا يستجيبون لهم إلا في الوقت الضائع. فكتب الجنرال تغريدة على موقع تويتر يقول قيها “أتفهم” موقف الذين تأثروا سلباً ببعض إجراءات تنقية البطاقات التموينية وحذف بعض المواطنين منها، و”اطمئنوا” لأنني أتابع بنفسي هذه الإجراءات. وفي اليوم التالي أعلن وزير التموين إعادة 1.8 مليون مواطن إلى منظومة البطاقات بعد حذفهم منها.

أخيرًا تفهم الجنرال موقف المحذوفين. ولكن متى؟!، بعد 4 مراحل من الحذف، وهو يتابع إجراءات الحذف المستمرة على مدار 6 سنوات متتالية، رغم معدلات الفقر المتزايدة، ورغم تزايد معدلات الطلاق بسبب الفقر. ثم يقول أتفهم الموقف، ولم يتفهم المعاناة والظلم والحذف العشوائي والأكل من الزبالة.

المواطن الذي أُعيد إلى منظومة البطاقات لن يشكر الجنرال السيسي، لأنه يعرف أنه هو من أمر بحذفه تنفيذًا لإملاءات صندوق النقد الدولي، ولن يشكر وزير التموين لأنه يعترف بأن إعادة المحذوفين تمت بأمر مباشر من السيسي الذي أمر قبل ذلك بالحذف، الشخص الوحيد الذي حظي بالشكر على مواقع التواصل هو المقاول محمد علي، ولولاه ما تمت إعادة المحذوفين، ولبدأت المرحلة الخامسة في موعدها الذي حدده وزير التموين في بداية شهر أكتوبر الجاري.

مش هنرضى بالفتات

المحذوفون من البطاقات التموينية لا يمثلون سوى 2% من المصريين، ولا يمثلون إلا نسبة قليلة جدًا من ضحايا الجنرال السيسي الذي يكتسب عداوات جديدة يوميًا بسبب اجراءات الإصلاح الاقتصادي التي طالت كل طبقات المجتمع. وهو يريد أن يبيض وجهه بمليار جنيه فقط هي تكلفة الدعم المخصص لـ 1.8 مليون مواطن في منظومة التموين في السنة. هذا المبلغ يقل عن نصف تكلفة قصر واحد من القصور الرئاسية.

مليار جنيه يمكن أن تصنع شعبية لرجل دولة، ولكنها لا يمكن أن تحسن صورته إذا سقطت تحت أقدام المتظاهرين، ولا تخفيض أسعار البنزين بمقدار ربع جنيه، وقد رد الناشطون على هذا التخفيض الساذج بوسم “#مش_هنرضى_بالفتات”، وتصدر قائمة الأكثر تداولًا على موقع تويتر في مصر. كما أن تخويف الناس وشغلهم عن متابعة فيديوهات محمد علي باستدعاء أزمة سد النهضة في هذا التوقيت، على خطورتها، لم ينجح في اثناء المصريين عن المطالبة بالرحيل، بل زاد السخط.

يبدو أن  الجنرال نسي أن بطاقة التموين في أيام مبارك كان تحتوي على 2 كيلو سكر للفرد بسعر جنيه وربع للكيلو، و2 كيلو أرز بسعر جنيه ونصف للكيلو، ولتر ونصف زيت بسعر ثلاثة جنيهات فقط للتر، ورغم ذلك ثار عليه المصريون وخلعوه بسبب فساده السياسي هو وزوجته ونجله، مع أن الحالة الإقتصادية وأسعار السلع كانت أفضل بكثير من الواقع الآن.

ومن سوء حظ الجنرال، أن وزير التموين لما حاول مجاملته وتلميع صورته قال أن الحكومة تنظر لمواطنيها بعين الإحسان فزاد الطين بلة وضاعف شحنة الغضب والسخط عليه. أما رئيس البرلمان، علي عبد العال، فحاول تمجيده والدفاع عن سياسته فشبهه بهتلر النازي، فكان مثل الدبة التي قتلت صاحبها من فرط خوفها عليه.

إلغاء قرار باسم عودة

في يونيو 2013، قرر وزير التموين في حكومة الرئيس محمد مرسي، الدكتور باسم عودة، إضافة الأطفال من مواليد سنة 2005 حتى 2011، وعددهم 6 ملايين طفل، إلى منظومة البطاقات التموينية، والبدء في صرف السلع التموينية المقررة لهم اعتبارًا من أول يوليو/تموز 2013، وقد تم تدبير المبلغ في الموازنة العامة، ولكن الجنرال السيسي أوقف القرار بعد الانقلاب مباشرة.

في الثالث من يوليو/تموز 2018، تعهد رئيس الوزراء في بيان الحكومة أمام البرلمان بإضافة هؤلاء المواليد لبطاقات التموين بدايًة شهر أغسطس 2018، وهو ما لم يحدث حتى الآن. وفي الأول من أغسطس الماضي، أعلن وزير التموين عن عدم إضافة هؤلاء المواليد إلا بعد الانتهاء من عمليات الحذف المستمرة منذ تولى السيسي الحكم منتصف 2014، ولم يأمر السيسي بإضافتهم، رغم أن تكلفة الدعم المخصص لهم أقل من 6 مليارات و500 مليون جنيه في السنة.

المسكنات الساذجة التي قدمها الجنرال السيسي بعد فضائح محمد علي لا تؤشر على جديته في تغيير السياسات القائمة أو تقديم إصلاحات حقيقة، ولكنها تدل على أنه ينحني للعاصفة لامتصاص سخط المصريين، وبالتالي لن يسمع لمن ينصحه بتقديم الاعتذار والانسحاب من المشهد، أو لمن يدعوه لإجراء انتخابات رئاسية مبكرة. وقد نصحه أحد أستاذة العلوم السياسية المؤيدين له ومن المنظرين لانقلاب يوليو، وهو الدكتور حسن نافعة، بالإعلان عن عدم الترشح في انتخابات 2024، يعني أن يستمر في الحكم خمس سنوات قادمة فقط، لتجنب الفوضى واحتواء الأزمة، فضاق بنصحه واعتقله.

شاهد أيضاً

وائل قنديل يكتب : عبّاس وغانتس: إجماع فاسد أم انقسام حميد؟

لا ينتعش محمود عبّاس، وتدبّ فيه الحياة والقدرة على استئناف نشاطه في “مقاومة المقاومة” إلا …