محمد عبد الحكم دياب يكتب: مقاومة تحويل الاستيطان الصهيوني لحقائق مستقرة على الأرض

تعمل «صفقة القرن» أو صفعته على إلغاء الكينونة الفلسطينية؛ أرضا وتاريخا وبشرا.. وتحويل الاستيطان غير المشروع إلى حقائق أبدية وملموسة على الأرض؛ ويراهن أصحاب الصفقة على تقادم السنين، ومرور الزمن، وتعاقب الأجيال، وتكثيف الضغط على الأجيال الحالية للتهجير والاقتلاع من الأرض والتاريخ والأهل، وإِعْمال دورات الإبادة والنفي والتهجير القسري.. الذي لا يكفي فيه توحش الاستيطان، ولا أسلحة القتل والدمار الشامل، ولا تمويل المؤسسات الصهيونية والدعم الغربي، الذي لا يتوقف لجلب مستوطنين جدد من كل صوب وحدب.. وحشد ظهير دولي وتأييد عالمي لشرعنة كل ما هو غير مشروع، وفق معادلات أممية وتوازنات دولية تبقي على الاختلال، وتقنن الاغتصاب وتشجع الاستيطان، وتمول التهجير والطرد.
والفقرة السابقة تلخيص ما يجري في فلسطين في زمن التماهي الأمريكي مع المشروع الصهيوني وقدرته على قلب المفاهيم والحقائق، وفرضها بالبلطجة والابتزاز والانحياز الشديد لكل ما يدعم الحركة الصهيونية، التي أضحى مشروعها هو الوحيد المطروح أمام الفلسطينيين؛ في ظروف ضعف وتمزق عربي كامل، وشراكة الثروة العربية، وانصياعها وقبولها بصهينة مواقفها وأعمالها؛ دون اعتبار لمصالح وطنية وسياسية واجتماعية أو مراعاة المشاعر الإنسانية.
وتم استبدال الكينونة الفلسطينية بأخرى مصطنعة وافدة؛ ليس لها صلة بالأرض، ولا التاريخ، أو البشر الذين استقروا فيها من آلاف السنين.. واستمرار هذه الكينونة المصطنعة اعتمد على البطش والقوة الغاشمة والتطهير العرقي.. وعليه من المطلوب قبول ما يقدمه صاحب «الصفقة» حتى لو لم تكن موجودة أو مكتملة.. ودون حساب لإمكانية مواجهة الحياة وسط أمواج بحر متلاطم من التداعيات والتناقضات والتداخلات والفوضى التي عمت هذه الحقبة. 
الصفقة ما زالت في أَسْر أحاديث مرسلة، ولا يسندها موقف رسمي ولا خرجت عنها وثيقة معتبرة؛ صادرة عن هذا الطرف أو ذاك من بين المعنيين بأمرها.. ما زالت حبيسة رأس صاحبها، ولا تجد من يعبر عنها رسميا باللسان.. والرأس فارغ، والأهلية ناقصة، وكل ما يهم هو خدمة المشروع الصهيوني، والمنتديات العنصرية، الاستعلاء والاستكبار والعنصرية ضد من هم غير ذلك من الفلسطينيين والعرب والمتعاطفين معهم؛ يُستنزفون ويُبتزون ويُهانون، والنتيجة هي حصول العراب على المقابل مقدما من خزائن أصحاب القرار والأثرياء العرب.. 
وقد تكون الضجة المصاحبة لـ«الصفقة» من أجل المحافظة على سريتها.. لكن السرية لا تكون بهذه الطريقة.. فاتفاق سايكس ـ بيكو مثلا كان سريا.. وحافظت الأطراف المعنية على سريته.. ومع اشتعال الثورة الروسية في 1917 رُفع غطاء السرية عنه، وكان يستهدف وراثة الامبراطورية العثمانية؛ «رجل أوروبا المريض»، بين بريطانيا وفرنسا؛ القوتين الأعظم في ذلك الوقت، وكان اتفاقا بعلم القيصرية الروسية.. وكان من الممكن أن يبقى سرا إلى ما شاء الله.. وهناك اتفاقات أحدث؛ كالتي وقعتها تل أبيب مع القاهرة وعَمَّان، برعاية أمريكية، وأُرْفِقت بها ملاحق سرية لم يتم الكشف عن كامل تفاصيلها بعد، وتنفذ تباعا، وتجد ترجمتها في خطوات التطبيع وبرامج الصهينة، ومن خلال التعاون والشراكة والتنسيق الرسمي العربي الصهيوني، الذي وصل حد التطابق في الرؤى والمواقف والسياسات بشكل غير مسبوق.
وهذه «الصفقة» أتت بـ«جاريد كوشنر»، صهر الرئيس الأمريكي ترامب ومستشاره؛ أتت به في جولة للضغط على الحكومات العربية القابلة بالصفقة؛ في الرياض، وأبو ظبي، والقاهرة بالتعاون مع تل أبيب.. ومؤخرا نشر «موقع ميديابارت» الفرنسي تقريرا وصف نتائج الجولة بـ«الصادمة»، وبالانحياز الكامل للمطالب الصهيونية، وتجاهل ما «تحقق خلال عقدين من المفاوضات بين الطرفين». وكشف الموقع الفرنسي أن من أعد «الصفقة» وعمل على فرضها ثلاثة شخصيات؛ هم جاريد كوشنر.. وجيسون جرينبلات؛ صهيوني متطرف من أصول مجرية؛ اختاره ترامب نفسه لهذه المهمة.. وديفيد فريدمان سفير واشنطن لدى تل أبيب.. ووصف التقرير ذلك الثلاثي بانعدام الخبرة الدبلوماسية، والجهل بشؤون المنطقة العربية، ولا يعرف غير العمل لحساب الدوائر الصهيونية. ولا يعول عليه في التعامل مع الوضع في فلسطين والقدس والبلاد العربية والإسلامية المتاخمة والقريبة.. وهو وضع شديد التعقيد والتشابك.
وقوبل ذلك الثلاثي برفض رسمي وشعبي فلسطيني؛ لخصته عبارة وردت في أكثر من صحيفة وجهاز إعلامي فلسطيني: “اذا كان وعد بلفور قد مر فإن وعد ترامب لن يمر أبدا». ونشرت صحيفة «هاآرتس» تصريحات لمسؤولين فلسطينيين تتعلق بمناقشات مع بعض الحكام العرب تضمنت توجيه رسائل مفادها أن أي خطة لا تلبي المطامح الفلسطينية، «يمكن أن تزعزع الاستقرار الإقليمي للمنطقة بأسرها”.
وطالب قادة دول عربية الامتناع عن كشف تفاصيل «الصفقة»، حسب ما جاء على لسان مسؤولين فلسطينيين للصحيفة الصهيونية.. ويبدو أن الموقف الرسمي الفلسطيني استقر على مواجهة «الصفقة» بخطة ذات ثلاثة أبعاد: 
الأول؛ جبهة وطنية فلسطينية موحدة، وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني، والإسراع بإتمام المصالحة الوطنية.. 
الثاني الاعتماد على الانتفاضة واستمرار مسيرات العودة؛ كحراك فاعل ومتاح ومؤثر، ويستطيع مواجهة الاعتداءات الصهيونية المستمرة، ولفت نظر «الأشقاء» إلى التخفيف من حدة التضييق غير الإنساني على المعابر.. 
الثالث التحرك على المستوى الدولي.. ويحتاج لاستراتيجية جديدة غير تقليدية؛ تحد من أثر الإجهاض المستمر للقرارات الأممية التي تُقدم للجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن ومنظماته المتخصصة.. واستمرار استخدام واشنطن لـ«حق النقض» بشكل يزيد الأوضاع تعقيدا، ويَضعف الثقة في هذه المنظمات الدولية.. واتباع نهج مختلف يقيم توازن دولي مطلوب، ويكسر قيودا تحول دون كسب مزيد من الحلفاء والمؤيدين بغض النظر عن الموقف من القضايا الخلافية الأخرى.. وليكن الاتجاه نحو الشرق مخرجا؛ صوب الهند والصين وكوريا وروسيا وإيران، وكذلك كثير من بلاد آسيا وأمريكا اللاتينية.. وإعادة النظر في السياسات التي تتعامل مع العالم على غير أساس المصالح، وتغليب الأيديولوجية والمذهب والطائفة والنزوع الانعزالي، وكل ذلك مدمر للنفس وغير داعم للقضايا المصيرية، وتسبب في هلاك الحرث والنسل في «القارة العربية».. ويجب العمل على كسب الرأي العام الإقليمي والدولي والإنساني على قواعد التعاون والعدل والمساواة والرخاء والأمن والتحرير للجميع، وعودة اللاجئين وتعويضهم بالنسبة للفلسطينيين وباقي اللاجئين العرب. 
ولفت النظر أن «هيئة البث البريطانية»؛ بي بي سي، نشرت يوم الثلاثاء الماضي نتيجة استطلاع رأي؛ أجرته جامعة تل أبيب ومعهد الديمقراطية بفلسطين المحتلة؛ أشار إلى أن 74٪ من المشاركين يعتقدون أن «صفقة القرن» ستفشل، «على الرغم من اعتراف غالبيتهم بجهود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، التي تصب في مصلحة إسرائيل».. وذلك موقف صادر من أصحاب المصلحة في «الصفقة»، وكاشف لأثر إسقاط أهم عنصر في أي مشروع لمعالجة القضية، وهو الفلسطينيون أنفسهم، فبدونهم فلا حل ولا سلام ولا عدل أو أمان.. وهذا كاشف لتدني وتهافت وتعنت القوى والدول المنحازة للصهيونية والتي ما زالت أسيرة الفكر العنصري.

شاهد أيضاً

وائل قنديل يكتب : عبّاس وغانتس: إجماع فاسد أم انقسام حميد؟

لا ينتعش محمود عبّاس، وتدبّ فيه الحياة والقدرة على استئناف نشاطه في “مقاومة المقاومة” إلا …